كان حق هذا المقال أن يسبق مقالات القبائل والقراءات ولكني أخرته عن عمد فلما رأيت من تعرض له ومن كتب من المحدثين فيه ومن استفهم عن معانيه كتبت هذا المقال.
معلوم لكل إنسان إن القرآن لم ينزل دفعة واحدة ولا في مكان واحد بل نزل منجما في ثلاثة وعشرين عاما بمكة والمدينة وما حولهما؛ وكانت الآيات ينزل بها جبريل عليه السلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم فيتلقاها المؤمنون من فم الرسول ويكتبها من عرفوا أنهم كتاب الوحي كما يمليها عليهم الرسول الكريم. وكان الإسلام في مكة محدود الأشخاص فلما هاجر النبي إلى المدينة اتسعت رقعة الإسلام وكثر عدد الداخلين فيه من قبائل مختلفة ولهم عادات صوتية تخضع لها ألسنتهم وتتحكم في ألفاظها، فكان من سماحة الإسلام أن يترك الألسن على سجيتها من إمالة وتفخيم وما شابه ذلك من طريقة أداء اللفظ بنغمة تخضع لها عادة الإنسان اللغوية حيث لا يمكنهم أن ينسلخوا منها بسهولة.
وهذه الإباحة أرشد لها الحديث المرفوع، اقرءوا القرآن بلحون العرب وأصواتهم وفهمت من أن الرسول قرأ فأمال (يحيى) فلما سئل في ذلك قال هذه لغة الأخوال بني سعد.
أما حديث أنزل القرآن على سبعة أحرف فلم يكن مقصود به اللهجات التي هي عادة لغوية تتحكم في عضلات النطق. وكل توجيه لهذا الحديث على انه يراد به لهجات القبائل، إنما هو توجيه خاطئ أو هروب خاطئ من معناه الحقيقي الذي تظاهره جميع الروايات الصحيحة لهذا الحديث
وآخر ما قرأته متعلقا به هو ما جمعه من عدة كتب الأستاذ عبد الوهاب حمودة في كتابه القراءات واللهجات وما حمله عليه الدكتور إبراهيم أنيس في كتابه اللهجات العربية متبعا في ذلك رأياً لبعض العلماء - ولي نقد على كتابيهما أرجو أن انشره في الرسالة إنشاء الله - وقد كنت أحسبهما سيطلعان علينا في هذا الحديث - وهما أستاذان مساعدان في الجامعة - ولهما على أستاذية - بالرأي الواضح المستقيم، ولكن الأستاذ حمودة كانت مهمته عرض آراء ومحاولات التوفيق بينها دون أن يكون له مجهود يذكر.
والدكتور أنيس أختار أشهر التأويلات باعتبار أن الأحرف هي اللهجات كالإمالة والتسهيل