أمامك صورة الدكتور زكي مبارك فتفرس فيها ثم قل لي ماذا وقع في حسبانك منها. إن كنت قرأت له ما ألف وما كتب في النقد والمناظرة فستظنه خارجاً من معركة بولاقية كان فيها شدُّ الشعور، ولكم الصدور، ونطح الرءوس، وتمزيق الملابس. وما هذا الرواء البادي على وجهه وهندامه إلا خداع النظر أو فن المصور.
وإن كنت قرأت له التصوف الإسلامي فستتخيله لا يزال في سنتريس (مريداً) للشيخ الطماوي الشاذلي يعكف على الأوراد ويشارك في الإنشاد، ويحمل الإبريق، وينقر الدف؛ فهو أشعث أغبر ضاوٍ من أثر الذكر والصوم والعبادة.
وإن كنت قرأت له هذا وذاك غلب على ظنك أن الرجل قامت به حال نفسية جديدة دل عليها هذا المظهر الجديد؛ فإن إرسال الشعر وتشعثه من سمات الفلسفة والتصوف والفن. وأنت واجد في كتاب التصوف الإسلامي صفات وخطرات من كل أولئك جميعاً. وفي رأينا أن هذا الكتاب يؤرخ طوراً جديداً من حياة صديقنا الدكتور، هو طور التأمل والتعمق والنفوذ إلى صميم الجد في الموضوع. وهو خليق بأن يسبل على ما تقدمه من مغامراته الجريئة في الرأي والفعل ستاراً من الصفح الجميل. وإذا كان الله قد عود الشعراء والأدباء أنه يغفر لهم من ذنوبهم ما تقدم وما تأخر ببيت من الشعر أو خاطرة من الرأي فما أحرى زكي مبارك أن يدخل معه الجنة على حساب كتابه ألفاً من الأدباء المحرومين!
الحق أن كتاب التصوف الإسلامي بناء شامخ الذرى في تاريخ الأدب. وأقوى ما يروعك منه الجهد والاطلاع والفهم. وهذه الخصائص الثلاث هي ميزة الكتاب الجليل والبحث الجامع. وإذا كان المؤلف قد نجح في (إبراز الملامح الأدبية والخلقية للنزعة الصوفية) فانه نجح كذلك في كشف ناحية من الأدب العربي والفكر الإسلامي كان الأدباء المؤرخون يمرون عليها معرضين، كما يمر السائح الغفلان على منجم الذهب فلا يرى إلا صخوراً وحجارة. والصوفية هي النزعة الوجدانية الصافية في الفطر السليمة، ولها في الأدب والخلق والفلسفة والحياة إشعاع هادٍ كإِشعاع الحق، وكان لابد لهذا العنصر الباهر المجهول