أعجلني السفر - وابتغاء القرار بعد السفر - أن أكتب إلى الرسالة في موعد كتابتي إليها. وقد فاتني أن أكتب إليها، ولم يفتني أن أذكرها؛ فليس بيدي ذلك وكل من لقيت مذكري بها، حتى في وعثاء الطريق.
برح القطار القاهرة، فلم يمض غير قليل حتى أثار علينا من العثير ما يملأ الخياشيم ويوشك أن يملأ الصدور؛ ووجدتني مرة أخرى في حياتي أوازن بين منفذ مفتوح وغبار ثائر، وبين منافذ مغلقة وجو رائق. ولا صعوبة في الموازنة إذا كان الجو الذي يثور فيه الغبار جو تفكير وشعور وارتياء، فالغبار الثائر هنا أرحم وأدنى إلى الاختيار.
ولا صعوبة في الموازنة كذلك إذا كان الجو الذي يثور فيه الغبار جو خياشيم وصدور؛ فالجو الرائق هنا هو الأرحم والأدنى إلى الاختيار، وإن ضاقت الصدور بالحر والحرج؛ فضيق الصدور في الواقع أهون من ضيق الصدور في المجاز.
أغلقت النافذة واسترسلت في نسق من هذا التفكير أدرى كيف بدأ ولا أدري كيف أنتهى، لأنني ختمته في عالم الأحلام، ونمت والضجة من حولي وقد كان النوم عصياً ومن حولي السكينة والقرار.
ثم مضى القطار لا أسأله أين مضى ولا يسألني أين مضيت؛ حتى أشرقت الشمس على معالم الإقليم القنائي الذي يصح أن أعيد فيه ما قاله أبن الرومي:
فإذا تمثل في الضمير رأيته ... وعليه أغصان الشباب تميد
لأنني قضيت فيه أوائل عهدي بالخدمة الحكومية، ولبثت فيه زمناً أنتظر التثبيت فيحول بيني وبينه عيب واحد يا له من عيب! وهو أنني دون الثامنة عشرة بسنتين.
وأطلت أنظر الثامنة عشرة التي انتظرتها هنالك فترة من تينك السنتين، وأطلت النظر في مكاني. وحسبني بعض الرفقاء في القطار: هل من خدمة؟ ثم أسرع قائلاً: لا تؤاخذني أن أتطفل عليك بالسؤال فإنني لست بمتطفل في الحقيقة! لأنني أعرفك منذ عهد بعيد: ألست فلاناً؟ إنني ليسرني يا سيدي أن أؤدي لك بعض الخدمة التي أستطيعها، فهي دَينٌ لك علينا أجمعين.