للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

العُلوم

آراء وأنباء

للدكتور أحمد زكي

المزاج التجريبي:

جمعتني المصادفة في بلد ناء بخبير في اللاسلكي أجنبي، وفي إبان المجلس عرض عليه موظف مصري كبير مشروع نظام للإذاعة اللاسلكية يراد أتباعه في مصر حينما تتم المحطة المصرية الموعودة في يناير القادم. وكان المشروع طويلا عريضا كثير التفاصيل دقيق الأجزاء كثير الفروض، كثير الردود، معجبا في انسجامه، مقنعا في تلاوته، ولا شك أن كاتبه استغرق في مكتبه ساعات عديدة لتدبيره، واستهلك كثيرا من الورق والحبر قبل الانتهاء على صيغته الأخيرة. ولما فرغ صاحبنا المصري من عرضه سأل الخبير رأيه فيه وعن القدر الذي يتاح له من النجاح، فسكت الخبير هنيهة ثم قال: ابدءوا بعشر هذا فستجدون أن معالجة هذا العشر الأول سترسم لكم الطريق إلى معالجة التسعة الأعشار الباقية. لا أدري إن كان خبيرنا المذكور تثقف بثقافة علمية خاصة ولكن الذي أدريه أن عقليته لا شك علمية ورأيه الذي ارتآه صدر عن نفسية مزاجها تجريبي، والمزاج التجريبي وليد المران العلمي. فالعلم يتشكك في كل ما ينتج عن الفكرة الخالصة وعن نشاط الفكر البحت الذي لا يتعدى حدود الجمجمة. والعالِم الحديث كالسفسطائي القديم في فقدانه الثقة بالمنطق الصرف باعتباره أداة كافية لكشف الحقيقة. والعالِم الحديث يبالي بالنتيجة العملية أولا فإن فسرتها النظرية فقد حصل توافق محمود، وإن كان خصام فالنظرية مخصومة مرفوضة. وكثيرا ما تجد هذا المزاج التجريبي في رجال ليس العلم صناعةً لهم، فتجده في التجار وأرباب الصناعة وفي الساسة، وقد يكون طابعا خاصا في أمة، وقد وجدته في الأمة الإنجليزية طابعا لها، لا سيما في رجال تثقفوا بثقافة خاصة كثقافة كمبردج أو أكسفورد، والخبير الأجنبي المذكور من هؤلاء. ولو أنك عرضت هذا المشروع اللاسلكي المنمَّق على مصري ذي ثقافة قاهرية لكان سريعا إلى نقده ونقاشه بكل ما وهب من مزاج نظري ومقدرة فائقة في التخريج المنطقي، ولحَسب بعد الفراغ أنه أتى بنتاج صائب لا يأتيه

<<  <  ج:
ص:  >  >>