عرفته قبل أن يسافر ولقيته بعد عودته من الخارج، وأشهد لقد آمنت إيماناً لن يكون بعده جحود بما للخارج من عظمة، وتعاظمني ما بيننا نحن الشرقيين من بون في الحضارة وبين سادتنا الغربيين، حتى لقد أوشك يتملكني اليأس من أي إصلاح لحالنا، إلا أن نرسل جميعاً عالمنا قبل جاهلنا وكبيرنا قبل صغيرنا - اللهم خلا من سلف له أن سافر - بعثة واحدة في وقت واحد إلى بلاد الغرب لعود بعدها كأهل تلك البلاد لنا ثقافتهم ولنا ذوقهم ولنا أسلوبهم فيما يأتون من ضروب التفكير والأعمال ما جل وما هان
ولا يحملن القاري كلامي على اللهو والمبالغة، فالأمر أجل وأخطر من أن يسمح بشيء من هذا، ولو أنه رأى ذلك الذي أتحدث عنه، كما رأيته قبل سفره وبعد أوبته، لأيقن أني جاد كل الجد مقتصد غاية القصد فيما أقول، وحسبك أنه اغترب زمناً ثم عاد إلى وطنه العزيز وهو شخص آخر قد تغير تغيراً جوهرياً من جميع نواحيه إلا ناحية واحدة ستعلم نبأها بعد حين؛ وقد تم له ذلك على صورة أرى من الميسور معها على أن أصدق أن لماء التاميز وغيره من أنهار انجلترة فعلاً سحرياً، فما هو أن ينزل المرء فيه، أو أن يغترف منه غرفة فحسب، حتى يصبح مهما كانت جنسيته، بل إنه ليصبح وإن لم تك له جنسية إلا تلك الحلقة المفقودة التي لفقها خيال العلماء، إنجليزي المظهر والجوهر والخلق!
ما ذهب صاحبنا هذا مذهباً في حديث له إلا جعل غايته تلميحاً أو تصريحاً أن يلقي في روع السامع أنه كان في انجلترة، وأنه بذاك فوق مستوى من لم يتواف له مثل حظه مهما تكن مكانته؛ وكيف يكون لمن لم يحظ بذلك مكانة في نفسه على أية صورة من الصور؟ كذلك يعتقد ذلك الأستاذ الذي يتندر تلاميذه فيما أعلم من عبثهم أنهم يحصون عليه إشاراته إلى ذلك الشرف في دروسه، وإن أحدهم ليراهن صاحبه على درس يأمل أن ينسى فيه الأستاذ ذكر ذلك، ولكنه يخسر كل مرة، حتى لتحدثه نفسه أخيراً أن يذهب إلى أستاذه فيتوسل إليه أن ينسى مرة واحدة وله ما شاء بعدها من الإذعان والمودة!
وكيف ينسى الأستاذ، وإن هذا الأمر ليجري في نفسه مجرى النفس في رئتيه لا يكاد يستغني عنه لحظة؟ وأول ما يستطيل به عليك - إذا اغتررت بنفسك فطاولته، وأول ما