للأمير مصطفى الشهابي عضو المجمع العلمي ومدير أملاك الدولة
بدمشق
جلست في الدار في سفح (قاسيون) أجيل الطرف في أرجاء الغوطة الفيحاء، وقد ازينت للربيع وتبرجت وتجلت فتنة للناظرين. وجرت مياه بردى ومشتقاته صخابة جرافة، قد بجسها شتاء هذه السنة الممطار، بعد أن لبثت ثلاث سنين لاصقة من الجفاف بأرض النهر، وهي تتنغص وتتمور كأنها ترتقب من يدفعها إلى جنان الغوطة دفعا؛ ودبت الحياة في الأشجار الغبياء، فأرسلت عساليجها تتنشق أنفاس الربيع العليلة، وأطالت غماليجها تستقبل أشعة الشمس المنعشة، ونشرت أوراقها تهيئ للدوح وسائل الحياة وغضارة العيش
وبشر اللوز بإقبال الربيع فنور. وأعقبه المشمش فاشتعل زهرا وتضوع عطرا، وملأ جو الغوطة بهجة وإشراقا. وغار التفاح والكمثري والخوخ فعمدن إلى الازهرار، وتلألأن بالنوار، وسكر الصفصاف المستحي فدلى أغصانه وتمايل، وانتصب الحور فصعر خده وتثاقل، وعربد الجوز الدواح فنثر هريراته ذات اليمين وذات الشمال، وترزن السرو الجبار المتشائم وصاح قائلا كلنا للزوال. وابتسم الزيتون بأوراقه الخضر الحانئة، وقد نثرت أرومته السنون، وكسر فروعه الدهر الطحون. أما الرمان فلبث عاري الجسد ينتظر الدفء، فما ازدهى بنوره، ولا أشعل الجو بناره
وجن جنون النباتات البرية، فنبتت بين الزروع وعلى ضفاف الجداول وفي كل أرض سبخة أو بائرة، فالخردل هجم على الحنطة فكساها من زهره حللا صفرا، والنرجس نجم في مياه المناقع ونثر فوقها دررا وتبرا، وبدت شقائق النعمان بألوانها الزاهية، وتجلى الخشخاش بحمرته القانية، وتضوع البابونج والأقحوان، واستسرا تحت جنبه الآس والرمان
وشاركت الطير النبات فهبت تغرد بشتى الألحان، وتتراقص في كل مكان. فمن سمانيات تغلغلن بين الزروع خشية الصيادين، وشحارير سود الجلابيب إن طارت هتفت، وإن استقرت صدحت، وسنونوات لا يبرحن في السماء مدومات، أو على البعوض هاويات، وأنواع العصافير، في زقزقة وصفير، كأنها تشكر الباعث الغيث آلاء المطر، وكأنها تدعوا الإنسان إلى الأخضرين، لينعم بهما قرير العين