للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

جلست في الدار أدير الطرف بجنان الغوطة وقراها، فبدت عن يميني رياض (النيربين)، فذكرني بأبيات وجيه الدولة ابن حمدان:

سقى الله أرض الغوطتين وأهلها ... فلي بجنوب الغوطتين شجون

فما ذكرتها النفس إلا استخفى ... إلى بر ماء الَّنْبرَ بَيَن حنين

وقد كان شكى للفراق يروعني ... فكيف يكون اليوم وهو يقين؟

وبدت جنوبها بساتين داريا فقلت مع الصنوبري:

ونعم الدارُ دارَيَّا ففيها ... صفا لي العيش صار أرَيا

ولي في باب جيرون ظباء ... أعاطيها الهوى ظبياً فظبيا

والتفت إلى دمشق فإذا بها غرقى في خضم أخضر كأنها ياقوتة في نثير من الزمرد، وبرز الجامع الأموي عظيما جبارا بمآذنه الشاهقة العالية التي قال فيها نابغة بني شيبان من قصيدة غراء وصف بها ذلك الجامع الكبير:

وقبة لا تكاد الطير تبلغها ... أعلى محاريبها بالساج مسقوف

لها مصابيح فيها الزيت من ذهب ... يضيء من نورها البنان والسِّيف

قلت رحم الله نابغة بني شيبان! فلو عاش في أيامنا هذه لا في أيام بني أمية لقال:

لها مصابيح فيها الكهربا سطعت ... يضيء من نورها لبنان والسيف

ورق النسيم وراق الجو، فتذكرت قول القائل:

يا نسيما هبَّ مسكاً عبقاً ... هذه أنفاس ريَّا جِلَّفا

لكنني ما كدت أنشق هذه الأنفاس العطرات وأغرق في بحر من التأملات حتى فتح الخادم مذياع مصر فأسمعني ألحانا شجية حملتها أنفاس القاهرة الكهربائية، فذكرت شتاء مدينة المعز وعهدي به قريب، ورددت قصيدة لي ودعت بها تلك المدينة الساحرة، منها الأبيات الآتية في نسمات النيل:

أوَّاه يا نسمات النيل ساجيةً ... كم ضمك الصدرَ شهَّاقاً وزفّاراً

وكم تعطرت بِالريحان وامتزجتْ ... رّياك بالروض أفناناً وأزهاراً

ما إن نشقتك حتى خلتُ منتعشاً ... ماء الحياة جرى في جسم أنهاراً

وخفق القلب لشتاء مصر ولربيع دمشق معا، فكلاهما ساحر جذاب، وكلاهما مجتلي

<<  <  ج:
ص:  >  >>