. . . وقلت لنفسي: لقد أصبح الناس يقابلون بالشك والارتياب كتابة الكتاب والمفكرين. فإذا تقصيت السر وجدتهم على حق فيما يشكون؛ فقد باع هؤلاء الكتاب حرية الفكر بعبودية المال، ورضوا وهم طلائع الأمة أن ينقادوا لرجال المال والأعمال؛ وقلما تتفق مصالح الشعب ومصالح أولئك الرجال؛ ولعل هذا هو أكبر ما تعانيه من بلاء، بل لعله السر الوحيد فيما وصل إليه المجتمع من تفكك وانحطاط.
فالتنافس في سبيل القوت قد انقلب إلى تناحر مادي فظيع ليس له حدود، وطريق الاستقلال مفتوح على مصراعيه لكل طارق، وليس للكائنات البشرية قيمة تذكر أمام الغاية الكبرى، وهي جمع المال والإثراء بأي ثمن. فالذي يستطيع أن يلقي بقدر من المال في عمل ما يجد العامل الذي يرضى بالدون من الكفاف؛ ويستطيع أيضاً أن يرغمه على العمل ليل نهار بزيادة بضع قروش أو بضع مليمات! وله الحق في هذا ما دامت قوانين الدولة لا ترسم حدوداً لمثل هذا الاستغلال الفظيع، وما دام الضمير الإنساني لا ينزعج لهذه الحال؛ فكل شيء على ما يرام! أفبعد هذا نلوم الناس على انصرافهم وشكوكهم في إخلاص المفكرين والكتاب؟ أليس الدليل واضح أمامنا في كتابات الصحف اليومية وغير اليومية يعطي أصدق برهان على فساد (التفكير الجماعي) عند هؤلاء الكتاب. إنهم ليفسحون لرجال المال صدور الصحف يكتبون ويعلنون فيها ما شاء لهم الغرض. ثم لا يجدون غضاضة في إعطائهم فرصة للكلام عن بؤس الفلاح وشقاء العامل واضطراب الموظف وحيرة الجماعات، ومتاعب الشعب جملة وتفصيلاً. . . ليستتروا وراء هذه الإعلانات في ثوب الطبيب الذي يتوجع لآلام المريض، وهو يعلم أن بلسمه الشافي بين يديه، ولكنه لا ينزل عن الثمن بأي حال!
هؤلاء الكتاب يسيئون الظن في ذكاء (الغريزة المصرية الواعية) مثلما يسيئون إلى الشعب المصري بقوائم الإحسان التي يعلنون عنها كل يوم في صحفهم. لقد فسدت عندهم مقاييس الإصلاح، فتوهموا أن الكلام قد يغني عن الخبز، وأن الإحسان أجدى وسائل الإصلاح، وأن الدنيا بخير ما داموا هم سعداء! إلا أن الشعب المصري لا يطلب إحساناً ولا بكاء. . .