أما صاحب القلب المسكين فما كاد يرى الحبيبة وهي مقبلة تَتيمَّمنا حتى بغته ذلك فساوره القلق، واعتراه ما يعتري المحب المهجور إذا فاجأه في الطريق هاجره. أرأيت مرة عاشقاً جفاه الحبيب وأمتنع عليه دهراً لا يراه، وصارمه مدة لا يكلمه؛ فنزع نومه من ليله، وراحته من نهاره، ودنياه من يده؛ وبلغ به ما بلغ من السقم والضنى؛ ثم بينا هو يمشي إذ باغته ذلك الحبيب منحدراً في الطريق.
إنك لو أبصرت حينئذ قلب هذا المسكين لرأيته على زلزلة من شدة الخفقان، وكأنه في ضرباته متعلم يكرر كلمة واحدة: هي هي هي.
ولو نفذت إلى حس هذا البائس لرأيته يشعر مثل شعور المحتضر أن هذه الدنيا قد نفته منها.
ولو أطلعت على دمه في عروقه لأبصرته مخذولاً يتراجع كأن الدم الآخر يطرده.
إنها لحظة يرى فيها المهجور بعينيه أن كل شهواته في خيبة، فيردُّ عليه الحب مع كل شهوة نوعاً من الذل، فيكون بازاء الحبيب كالمنهزم مائة مرة أمام الذي هزمه مائة مرة.
لحظة لا يشعر المسكين فيها من البغتة والتخاذل والاضطراب والخوف إلا أن روحه وثبت إلى رأسه ثم هوت فجأة إلى قدميه.
غير أن صاحبنا لم يكن مهجوراً من صاحبته؛ ولكن من عجائب الحب أنه يعمل أحياناً عملاً واحداً بالعاطفتين المختلفتين، إذ كان دائماً على حدود الإسراف ما دام حباً، فكل شئ فيه قريب من ضده. والصدق فيه من ناحية مهيأ دائماً لأن يقابل بتهمة الكذب من الناحية الأخرى، واليقين مُعدٌّ له الشك بالطبيعة، والحب نفسه قضاء على العدل، فأنه لا يخضع لقانون من القوانين، والحبيب - مع أنه حبيب - يخافه عاشقه مع أنه حبيب.
وقد يصفرّ العاشق لمباغته اللقاء كما يصفرّ لمباغته الهجر، وهذه كانت حال صاحبنا عندما رآها مقبلة عليه؛ وكان مع ذلك يخشى إلمامتها به توقياً على نفسه من ظنون الناس، وأكثر ما يحسنه الناس هو أن يسيئوا الظن؛ وهو رجل ذو شأن ضخم ومقالة السوء إلى مثله سريعة إذا رُؤى مع مثلها. وكأنما هي ألمت بكل هذا أو طالعها به وجهه المتوقر المتزمت؛