(كنت أمس عند قريب لي يمارس صناعة الطب؛ فخرج لبعض حاجته، حتى أطال الغياب، وتسرب إلي الملل، فقمت إلى خزانة كانت حيالي، فقلت: لعل فيها كتاباً أقرأه فما راعني حين فتحتها إلا هيكل عظمي معلق بسقف الخزانة. . . وإلى جانبه هيكل ثان. . .)
. . . من أنت أيها الإنسان الذي انتهى به الأمر إلى أن يحبس في خزانة، ويلبث الدهر معلقاً بسلكة، ويعد متاعاً من المتاع؟ أأنت رجل أم امرأة؟ أغنيّ أم فقير؟ أملك أنت أم صعلوك؟. . . . .
هل كان في هاتين الحفرتين البشعتين عيون ساحرات الطرف، يفتن ذا اللب حتى لا حراك به، ويفعلن بالألباب ما تفعل الخمر؟ وهل كان على هذا الثغر المخيف شفاه لعس، تأخذ دنيا البخيل بضمة على شفتيه، ويبذل حياته الجبان في قبلة منها؟ وهل كان على هذا القفص العظمي صدر بلوري، يضيع بين ثدييه عقل العالم، ويذهب فيه لبّ الحليم، وينسى امرؤ أسند إليه رأسه الدنيا. وما فيها؟ هل كانت هذه العظام المستطيلة المرعبة سواعد بضة، وأفخاذا رجراجة طالما أثارت من هوى وأذكت من خيال وطالما أنطقت بالشعر الشعراء؟ أكنت أيها الإنسان امرأة فاتنة جميلة؟
وهذا الإنسان الآخر؟ هل كان عشيقك أيتها الفتاة؟ اعترفي فلا بأس عليك اليوم؟ هل كان يهيم بك حبا، ويحيا الليالي يحوم حول منزلك، أو يرقب شرفتك فإذا رأى شارة منك أو أبصر على الشرفة ظلك أو لمح طرف ثوبك الأبيض أو الأصفر أو. . . أو (الأرجواني) انصرف وهو أسعد الناس حالاً، وراح يحبر فيك (المقالات)، وطفق يرى صورتك التي نسجها من خيوط حبه، لا صورتك التي هي لك: طفق يراها في السماء التي يرنو إليها ويعد نجومها. وفي صفحة الكتاب الذي يفتحه وينظر فيه، وبين أغصان الأشجار التي تمتد إلى شرفته. وحيثما تلفت أو نظر (تلوح له ليلى بكل سبيل)؟
أم كان هذا الإنسان شاباً غضّ الشباب طري العود، ينظر بعيون الغيد، ويتثنى كأنه قضيب بان، ويتكلم بصوت ليّن المكاسر، كأن ألفظه ورناته غادة أخرى تميل وتتدلل، ولم يكن يحبك أو يفكر فيك، أو يفتش هو الآخر على من يحبه ويفكر فيه. . .