في هذا الوقت الذي تلغى فيه الحدود الجغرافية نفسها على عتوها وجبروتها، وتتقارب الجماعات البشرية التي طال اصطراعها حتى أصبح التاريخ الإنساني كله عبارة عن سرد متصل لمشاهد حروبها وأهوال أيامها؛ بل وفي الوقت الذي تغلب فيه الدعوة إلى العدالة الاجتماعية سائر الدعوات فتعمل على محو الفروق بين الطبقات، أو التقريب فيما بينها على الأقل؛ أقول في هذا الوقت تقوى في مصر عصبية خطيرة تخلق طبقات جديدة وتنشر الإحن والأحقاد في نفوس الأفراد والجماعات
ومن عجب أن هذه العصبية تفرق أولاً وقبل كل شيء بين المتعلمين على الرغم من أن المصادفة وحدها جعلت المتعلم متعلماً والجاهل جاهلاً، وكان الأحجى أن يتقارب الاثنان ويأخذ الفاقد من الواجد، ولا أقول يعطي الواجد الفاقد
وفرقت هذه العصبية كذلك بين المتعلمين أنفسهم، فجعلتهم طبقات، واخترعت لهذه التفرقة مراحل وأقسماً، فهؤلاء هم أهل الطبقة الأولى، وهؤلاء أهل الطبقة الثانية، وأولئك أهل الطبقة الثالثة. . . وهكذا
ولم تكتف هذه العصبية الوبيلة بذلك، بل راحت تفرق الطبقة الواحدة شيعاً وأحزاباً لا تتعاون فيما بينها، لأن الأحقاد والإحن هي أساس وجودها والباعث على بقائها واطراد نموها.
ترى ما هذه العصبية الحمقاء التي صورتها بهذه الصورة المنكرة؟ هذه العصبية هي التي سميتها (العصبية المعهدية)، ولطالما نبهت إليها وحذرت منها، فلم يأبه للتنبيه والتحذير أحد، لأن الكل متهم بها، منتفع من وجودها، وعامل على إذكائها.
هذه (العصبية المعهدية) هي السر فيما تسمعه كل يوم من أن طائفة بعينها، أو قسماً بعينه يريد أن يسوي بينه وبين طائفة أخرى وقسم آخر في بعض المزايا والحقوق؛ أو أن أبناء معهد بعينه ينكون على أبناء معهد آخر ما يضطلعون به من جهد وما يقومون به من عمل، وكأنما العلم بضاعة يحتكرها أولئك دون هؤلاء، والقوامون على مرافق هذه الأمة يساعدون أحياناً، عامدين أو غير عامدين، على تقوية هذه العصبية بتفضيل طائفة من المتعلمين على