للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[من الشعر المنثور]

موعظة الحكيم

للأستاذ خليل هنداوي

وسمعته وقد جمع إليه تلاميذه في الساحة يودعهم ويشجعهم، وقد لمعت بوارق الأمل في وجوههم، وكأنما كل واحد منهم رسم على صفحة وجهه ما يوارى له الغد.

قال لهم: يا أبنائي، إنكم داخلون في أقطار تعرفونها وتجهلونها، وحاملون إليهم ما يعرفونه ويجهلونه، فابذلوا تعاليمكم في سبيل الحياة، لأن من يعمل للحياة تضمه الحياة إلى صدرها. لا تكونوا كأولئك الحكماء الدجالين الذين يسخرون من جهل الناس وما عرف جهلهم إلا أنفسهم، يقولون للناس: هلموا الينا، إننا أتيناكم بالحياة، وما يحملون إلا الموت. لتعط ألسنتكم من خزائن قلوبكم، وليخرس اللسان إذا أراد القلب ألا ينطق.

الكلمات المنثورة - من غير صدق اعتقاد - تمضي كما تمضي الأصداء، وتنقش في الصدور، كما تنقش على الرمال السطور!

أريد أن أسمع كلماتكم في عزلتي، وأريد أن ترسخ على وجوه الجبال وصفحات البحار. ولن تقدروا على تخليدها إلا إذا اعتقدتم بخلودها.

اذهبوا كما تذهب السوافي من البحر مبشرة بنعمة البحر. لا تمدحوا عذوبتها قبل أن تذكروا ملوحته. البحر يوزع الحياة على الأرض، ويُعطي بلا نفاد، لأن لذة حياته لم يقفها على الأخذ دون العطاء.

تذهب السافية من البحر لتعود إلى البحر نقية طاهرة لامعة تؤوب كما ذهبت. لأن الأرض لا تقابل يد الطاهر إلا بجسدها الطاهر، ولا تقابل الرجس إلا بالطهر.

اذهبوا أنتم وعودوا إليّ أنقياء طاهرين كما تذهبون طاهرين، أما الطاهر فلن يعود إلا طاهراً كالسافية النقية تذهب حبلى بأسرار البحر، وتعود حبلى بأسرار الأرض! وأما الدنس فانه لن يعود إليّ كالسافية التي خبثت نفسها فعرجت على بطون الرمال تتهادى فيها ولا تنفع الحقول. فهي إلى موت لا حياة بعده، وهي موطن لا ترتقب فيه ساقية ثانية تحملها إلى مستقرها.

كونوا كالسافية الأولى، تذهب مرنمة على أجنحة الغيوم، وتعود كرّارة ثرثارة بين تعاريج

<<  <  ج:
ص:  >  >>