لا أريد أن أطوي القرون القهقري، لأتكلم عن النهضة الأدبية في السودان القديم الذي عاصر الفراعين في مصر، والبابليين والآشوريين في العراق. ولا أريد كذلك أن أقتصر على النهضة الأدبية الناشئة الآن، ولكني أحب أن أقدم عرضاً موجزاً للحياة الأدبية في السودان العربي
عندما انتصر العباسيون تفرق الأمويون في بلاد الله، فنزل فريق منهم الأندلس وأسس بها مملكته الشماء، وجاء فريق إلى جنوب السودان وهبط سنار بين النيليين الأزرق والأبيض، حيث وجد موجات عربية أخرى قد سبقته ما بين القرنين السادس والثالث عشر الميلاديين إلى تلك الربوع، وهناك امتزج بالسكان الأصليين وتزوج معهم وتناسل، على أشهر الروايات، وأسس صرح مملكة عظيمة تسمى بالسلطنة الزرقاء أو مملكة الفونج، امتدت شهرتها حتى وصلت إلى القسطنطينية واتسعت حدودها حتى البحر الأحمر وأطراف الحبشة وحدود ذارفور
وقد اشتهر ملوك سنار بما جُبلوا عليه من الشيم العربية، من الكرم والشهامة وحب الثناء، فكان الشعراء يفدون عليهم من مصر ومن سائر البلاد العربية، فينظمون فيهم عقود الثناء، وينضدون فيهم قلائد المدح؛ ولكن الطابع الأصيل للنهضة الأدبية في رعاية ملوك سنار دينياً بحتاً، فكان للعلوم الفقهية المقام الأول، في الدراسة والتحصيل، وفي البحث والتنقيب. ولم تقتصر همة ملوك الفونج على رعاية العلماء في داخل حدودهم، بل كانت لهم صلات وثيقة بأفاضل العلماء في مصر، ورجالات الأزهر المعمور. ومن أشهر هؤلاء الملوك الملك بادي أبو ذقن؛ كان يرسل الهدايا والهبات إلى رجال العلم في الوادي الشمالي حتى مدحه الكثيرون بقصائد رنانة - أورد منها شقير بك في كتابه (تاريخ السودان) أبياتاً للشيوخ عمر المغربي قال فيها:
أيا راكباً يسري على متن ضامر ... إلى صاحب العلياء والجود والبر
وينهض من مصر وشاطئ نيلها ... وأزهرها المعمور بالعلم والذكر
لك الخير إن وافيت سنار قف بها ... وقوف محب وانتهز فرصة الدهر