تمر على الأمم في تاريخها فترات تشعر خلالها بحاجة إلى رفع نفسها إلى مستوى من سبقها من الشعوب في مضمار التقدم الفكري، فيحدث إبان ذلك نوع من الهجرة الثقافية في أنواع المعارف المختلفة وخاصة في مجال الفلسفة، لأنها حتى منتصف القرن الثامن عشر، أي قبل أن تأخذ فلسفة كانْت شكلها الحاسم، كانت تفهم بأنها مجموع العلوم الإنسانية. ومن الطرق التي تمهد لهذه الهجرة الثقافية: الحروب تارة كما حدث إبان الحروب الصليبية من اشتباك التفكير المسيحي والتفكير الإسلامي، وتارة التجارة فهي بجوار ما تحمله من السلع تحمل على وجه خاص تفسيراً لها وشرحاً عقلياً. وأمر الفينيقيّين معروف في هذا الباب؛ ومنها الرحلات وأهميتها ظاهرة عند أفلاطون وتأثره بالتفكير المصري القديم كما يلاحظ ذلك عنده في مقدمة كتابه (طيماؤس) وكذلك عن ابن خلدون في (مقدمته)؛ ومنها البعثات العلمية في خارج البلاد كبعثات فرنسا في ألمانيا، فرافيسون يشيد بذكر أستاذ شلنج واستاذنا بوجليه يشيد بذكر أهرنج وكبعثات مصر في فرنسا، فهناك من ينطق باسم جوستاف لوبون وهناك من يبشر باسم ديكارت وغير ذلك. ولكن مهما يكن لهذه الطرق من الأهمية في هجرة الثقافة، فهي في نظري ناقصة لأنها لا تخلق إلا عرفاً ثقافياً.
ومن أصول العرف عامة إلا يستقر على قرار متين، لأنه يخضع لظاهرة التقليد في المجتمعات البشرية كما يؤكد ذلك العلامة تارد في كتابه (القوانين الاجتماعية). لهذا لوم خلق قانون وضعي للثقافة يحدد شرعتها واتجاهها ويضمن لها الاستقرار والإنتاج خلال نزعة معينة، وهذا لا يمكن تحقيقه إلا بالترجمة فهي الأساس الأول الذي عليه يبنى (التماسك) الفكري في عقلية الفرد، والتماسك الفكري في عقلية المجتمع
وأهمية الترجمة تتلخص في أربعة أفكار نجدها عند زعيم الأدب الفرنسي وأستاذه السابق بمدرية المعلمين العليا بباريس العلامة لانسون في (مجلة التاريخ الأدبي لفرنسا) عام ١٨٩٦
أولاً - تمهد الترجمة لخلق (فكرة عامة) عن الشعب المترجم عنه، لأن الشعب المترجم إليه