سئل الرافعي ماذا يريد أن يقال عنه بعد الموت، فكتب جوابه قبل وفاته بشهرين صفحة بارزة بين خالدات آثاره: ومما جاء فيها:
(وبعد الموت يقول الناس أقوال ضمائرهم لا أقوال ألسنتهم إذ تنقطع مادة العداوة بذهاب من كان عدواً وتخلص معاني الصداقة بفقد الصديق ويرتفع الحسد بموت المحسود وتبطل المجاملة باختفاء من يجاملونه.)
ثم أورد بعض الكلمات التي اعتقد أنها ستقال عنه: كمعجزة الأدب وحجة العرب ومؤيد الدين الخ. . ليستطرد قائلاً:
(أما أنا، فماذا ترى روحي وهي في الغمام وقد أصبح الشيء عندها لا يسمى شيئاً إنها سترى هذه الأقوال كلها فارغة من المعنى اللغوي الذي تدل عليه لا تفهم منها شيئاً إلا معنى واحداً هو حركة نفس القائل وخفة ضميره، فشعور القلب الثائر هو وحده اللغة المفهومة بين الحي والميت). . .
أي أخي مصطفى، إذا كنت أصبت باستجلاء نفسك وهي لم تزل أسيرة جوارحك، فإنك خدعت بإطلاقك حسن ظنك على الناس أجمعين، لأنك اتخذت تجردك مقياساً فحسبت أن خصومك سينصفونك بعد موتك كما أنصفت أنت من جادلتهم وجادلوك وأردت أن تفهمهم وما أرادوا أن يفهموك.
لقد كانت تنقطع فيك مادة العداوة بذهاب من كان عدواً، لأن عداءك كان ناشئاً عن اعتقادك بتفوق أسلوبك وروعة مذهبك، فما ناضلت حين ناضلت إلا عن سلسلة ثقافة تواصلت حلقاتها منذ نشأ الأدب العربي الصميم حتى انتهى إلى قلمك. أما هم فقد كان عداؤهم ضغينة لأنهم احبوا أنفسهم واستغرقوا في أنانيتهم، لذلك قضت عليهم طبيعة نفورهم منك بأن يغتابوك وأنت مغيب في التراب.
إن الحسد لا يرتفع بموت المحسود كما كنت ترى، لأن مادة الحسد مستمدة من صغار الحاسد فلا تزول إلا بزواله.