إنني لأرى روحك الآن تستشف هذه الحقيقة وهي من عيوب التراب لا يتملص منها في الحياة إلا الأرواح التي لم تطمع من الدنيا إلا بما تتزوده منها للآخرة.
وإنني لأراك لا تأبه لما يقال عن بيانك وأسلوبك ولهجتك فإنها أدوار بلاغ لإلهامك، وإلهامك وحده هو ما يقوم في نفسك الآن، فأنا أشعر بأن الكلمة التي أكتبها لذكراك لن تجتاز الحد القائم بين الظاهر والخفي، إنها لكلمة تزحف زحفاً في عالم التلمس والاستقراء موجة ذاهبة في ضم الآراء المتضاربة تقذف بالأحياء إلى طلب الرقي وهم متجهون إلى القبور.
أما الكلمة المجنحة التي تبلغ روحك أيها الأخ الحبيب، الكلمة المأخوذة (من اللغة التي يتفاهم بها الحياء والأموات) فإن روحي قد هتفت بها بالصرخة الصماء وبالدمعة العمياء منذ بلغها رجوعك إلى مصدرك، ولما نزل نهتف بها كلما ارتادت أجواء الشعور والتفكير
أفما قلت إن روحك ستبحث من وراء الحجاب عن الثمرة المساوية المسماة القلب في الناس وعن كل كلمة دعاء وكلمة ترحم وكلمة خير. وإن ذلك ما تذوقه الروح من حلاوة هذه الثمرة
لقد عرفت يا مصطفى، وما اقل من يعرفون هذا في الحياة، قيمة عطف الروح على الروح في هذه الدنيا وبخاصة قيمة هذا العطف يترامى على ضفاف نهر الموت مناجياً الأحباب الراحلين
إذا كان في كل عطف من حي إلى حي نشوة وقوة وأمل، فلا ريب في أن كل خفقة شوق من محب إلى ميت عزيز تحمل إليه الدعاء والترحم والخير
هنالك لا تغني نفس عن نفس شيئاً، ولكن عطف الأرواح الأسيرات على الروح المنطلقة في العالم الخفي ليس إلا مما كسبت هذه الروح من إخلاصها فحق لها أن تجزى بما سعت وبما اكتسبت
كنت أعتقد أن الرافعي كاتب له شأنه في محيطه الخاص، وأنه رجل بيان فخم، ولكنه يدور ضمن حلقة ضيقة من العلم، فكنت مسيئاً إلى نفسي بهذه الفكرة لأنني ما بنيتها إلا على مقال أو بعض مقال وقع نظري عليه منذ سنوات عديدة في لبنان
ومنذ سنتين أو أكثر شغفت بمطالعة رسالة الأستاذ الكبير أحمد حسن الزيات لعبقرية هذا