المفكر المجدد وحسن اختياره. وفي أحد أعداد الرسالة قرأت (رؤيا في السماء) للرافعي فكنت كلما قرأت سطراً بعد سطر احسبني اشهد أحلاماً غائرة في سريرتي تنقل أشباحها حقائق ماثلة لعياني، وما أتيت على آخر المقال حتى هتفت قائلاً: هذا هو مثال الأدب العربي الذي يمكننا أن نواحه به الآداب العالمية في نهضتنا. واندفعت أترجم (رؤيا في السماء) إلى اللغة الفرنسية ثم نشرتها مقدماً بها إلى أدباء الغرب حجة على من يدعي منهم أن الأدب العربي ليس إلا عالة على آدابهم
ومضى شهر على ظهور الترجمة في المجلة الأسبوعية الفرنسية في القاهرة، فإذا برجل مهيب الطلعة يدخل علي ويتقدم مصافحاً مقدماً نفسه (مصطفى صادق الرافعي) فبادرت إلى معانقته وبدأت أتكلم مرحباً، فإذا به يتفرس فيّ ويبدي إشارات من لم يفهم ما أقول، وكان يرافق الرافعي الأستاذ كامل محمود حبيب فأشار إلي بأن نابغتنا أصم وعلي أن أخاطبه بالقلم
ومنذ ذلك اليوم لم يحضر الرافعي مرة إلى الإسكندرية دون أن يشرفني بزيارته، وقد كان هو الساعي إلى تعريف الأستاذ الزيات والأستاذ حافظ عامر بك بي فتسنى لي أن أجتمع مراراً بثلاثة أفذاذ لكل منهم لمعان في آفاق النهضة الأخلاقية الأدبية وقد كلفوني بإجماع الرأي ترجمة كتاب زرادشت للفيلسوف الألماني نيتشه
وفي أواخر أبريل سنة ١٩٣٧ جاءني مصطفى في الإسكندرية وهو يتأبط وحي القلم هدية إلي تحمل كلمة من خطه أحتفظ بها بين ذخائر من فقدت من أهلي
وأمررنا اليوم معاً نتحدث كعادتنا، أكتب فيتكلم، ومما قاله لي أن إحدى الصحف كلفته كتابة مقال عنوانه المرحوم (مصطفى الرافعي بقلم مصطفى الرافعي) على نحو ما كتب (ويلز) وأن الفكرة راقت له ولكنه يريد أن أتولى أنا كتابة هذا المقال فقبلت مشترطاً أن أكون وضميره الملكين المستنطقين إذا هو أصر على إقامتي حكماً بينه وبين الحياة، فضحك وقال: ما اخترتك لهذه المهمة إلا لعملي بأن المحبة اشد صرامة في حكمها من العداء وما كان الرافعي مخدوعاً بما أضمره نحوه من إخلاص مجرد وقد تحقق أنني قدرت روحه قبل أن أتعرف إلى شخصه
ولما حان ميعاد انصرافه شيعته وأنا أحس بغصة شعرت بمثلها في كلمة الوداع التي ألقاها