وما أحقر عقل الجماهير ومنطقها، وما أكثر ما ترى شعبا من الشعوب، لمجرد فرية مزورة يعادي حبيبه، ويحب عدوه وينصر خاذله، ويخذل ناصره، ويصدق المحال، ويستبعد الحق. وصدق من قال أن الشعوب تقاد من عاطفتها لا من تفكيرها، وهكذا استطاع بعض البطانة أن يثير الشعب على بيبرس ومن معه. ولعل الشعب عطف على السلطان بغريزة مناصرة الرئيس على المرؤوس، والأب على الابن، أو لصغر سن السلطان، واستنجاده بهم، فتحركت فيهم النخوة التي تحمي من استجار.
وأيا كان سبب ذلك فسأنقل الرواية التاريخية بلفظها ليعرفها القارئ الكريم كيف كانت الأمة مصدر السلطة في ذلك العصر:(لما رأى العامة أن الملك الناصر قد وقف بالرفرف من القلعة، وجنود بيبرس وسلار تحاصره، حنقوا وصرخوا، وحملوا يدا واحدة على الأمراء، وهم يقولون: يا ناصر يا منصور، الله يخون الخائن، الله يخون من يخون ابن قلاوون، فأرسل بيبرس عدة مماليك لينحوا العامة ويفرقوهم، فاشتد صياحهم، وهجموا عليهم، وأفحشوا في حقهم، فخشي قائدهم من تكاثر العامة، وأخذ يلاطفهم، وقال لهم: طيبوا خاطركم فإن السلطان قد طاب خاطره على أمراءه، وما زال يحلف لهم حتى تفرقوا، وعاد قائد السرية بيبرس وعرفه شدة تعصب العامة للسلطان، فلم يسعه هو ومن معه إلا استعطافه، فأرسلوا إليه يقولون إنهم مماليكه وفي طاعته ولا يريدون إلا إخراج الشباب الذين يوقعون بينه وبينهم، فرضي السلطان بإخراج زعماء الدس إلى الشام، ودخل الأمراء عليه وقبلوا يده فخلع عليهم وركب معهم وطاف بالقاهرة لتطمئن قلوب العامة).