عادت المياه إلى مجاريها، وحمد كل الله على ما انتهت إليه الفتنة، ولكن بطانة السوء لم تحمد الله على ذلك، فما زال بيبرس أمينا على خزانة الدولة، وسلار مصرفا لشئونها وهم محرومون من شهوة المال، وشهوة الحكم، فوجدوا في إخراج زعماء الفتنة مادة جديدة لإشعال أحقاد الملك على بيبرس، فأخذوا يتباكون على استبداد الأمير بيبرس بملكه حتى يجبره على نفي بعض خاصته، وعلى تحكمه في مأكل الملك وملبسه ومشربه وشهوة نفسه، حتى أن الملك يبيت (في قلق زائد وكرب عظيم لإخراج مماليكه إلى القدس. . . وقد ضاق صدره، وصار في غاية الحصر من تحكم بيبرس وسلار عليه، وعدم تصرفه في الدولة كما يريد، حتى أنه لا يصل إلى ما تشتهي نفسه من المأكل لقلة المرتب له! فلولا ما كان يتحصل له من أملاكه وأوقاف أبيه ما وجد سبيلا لبلوغ بعض أغراضه).
إلى الصيد:
بلغ الضيق منتهاه بالسلطان، وكاد يختنق هما وغما فخرج في سنة ٧٠٨هـ من القلعة، وجاز النيل إلى البر الغربي، وأقام حول الأهرام يتصيد عشرين يوما، وهناك دبرت مؤامرة ثالثة خلاصتها أن يظهر الملك رغبيه في الحج مع عياله ثم يهرب إلى قلعة الكرك، وفي هذه الجهة النائية تعد نيران ثورة تلتهم بيبرس وسلار ومن معهما، ومهد لذلك بإرسال خطاب مزور باسم سلار وبيبرس إلى قائد قلعة الكرك ليسلمها للملك عند حضوره.
حج مبرور:
أعلن الملك رغبته في الحج مع عياله، وشرع الأمراء في تقديم الهدايا على العادة، من الخيل والإبل، والتزم عرب الشرقية بالشعير اللازم للدواب. وفي ٢٥رمضان نزل السلطان من القلعة ومعه جميع الأمراء، وكانت البطانة لا تألوا جهدا في استغلال الشعب ضد بيبرس، مخترعين القصص مفترين الأباطيل عما يضايق بيبرس ملكه، حتى اعتبر الشعب نفسه مسؤولا عن إنقاذ الملك وحمايته من هذا الأمير المستبد القاسي، وأراد الشعب أن يعلن في توديعه الملك إلى الحجاز مقدار حبه له واستعداده للتضحية بكل شيء في سبيله (فخرج العامة حوله وحاولوا بينه وبين الأمراء وهم يتباكون ويتأسفون على فراقه ويدعون له