للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

[أحمد شوقي]

بمناسبة ذكراه الثالثة

اجتمع رأي الناس - ما عدا الشعراء - على أن شوقي طيب الله ذكره، كان تعويضاً عادلاً عن عشرة قرون خلت من تاريخ العرب لم يظهر فيها شاعر موهوب يصل ما انقطع من وحي الشعر، ويجدد ما اندرس من نهج الأدب، ويحفظ للبيان العربي قسطه المأثور من التعبير الملهم عن كلمة الله المنبثة في الكون، وأسرار الجمال المضمرة في الطبيعة، ومعاني الخير الغامضة في الحياة؛ وأن فقده كان فقداً للوجدان الفني في الشعب الذي علمه كيف يتذوق الأدب ويستسيغ الشعر وينضح عواطفه الجافة بفيض هذه القريحة النابغة الثَرَّة؛ فالأعوام تعقب الأعوام، والذكرى تخلف الذكرى، والأسى لا يزال يُرمض الجوانح لامتناع الصبر عليه واعواز العوض منه؛ فسيبقى شوقي كما وضعه القدر كمالاً في نقص كان، وهيهات أن يصير نقصاً في كمال سيكون؛ وسيدور الفلك ويدور، ويقصد النقد ويجور، ويتطور الذوق ويسمو، وشعر شوقي ثابت ما ثبت الحق، خالد ما خلد القرآن، مقروء ما بقي العرب!

ذلك لأن الطبيعة اختارته لرسالة الشعر بعد فثرة موئسة من الرسل، ثم آثرته بالنصيب الأوفى من الفكر والخيال والعاطفة، وهن الملكات الثلاث التي ترفد القريحة وتمد الطبع، وعلى تفاوتها في القوة والضعف يتفاوت الفنان في السبق والتخلف؛ ثم زوّدته بالأذن الموسيقية والقريحة السخية والأداة الطيعة، فشب عبقرياً بالفطرة، لا شأن للبيئة في تنشئته، ولا للمدرسة في إعداده، ولا للفرصة في توجيهه؛ وهل كان أثر البيئة وقفاً عليه، وتعليم المدرسة خاصاً به، ومواتاة الفرص امتياز له؟ إنما كان مثله في رسالة الشعر كمثل الأنبياء في رسالة الدين، يختارهم الله من الضعفاء والفقراء والأميين ليكون جلاله عليهم أبهر، ومعجزته فيهم أظهر، وحجته منهم أبلغ

وشوقي رجل روحه أقوى من فنه، وشعره أوسع من علمه، وحكمته أمتن من خلقه، وقدرته أكبر من استعداده، فلا يشك قارئه في أنه وسيط لروح خفية تقوده، ورسول لقوة إلهية تلهمه؛ وما اكتسب من القراءة والأسفار إلا إرهاف الذوق، وتحصيل المادة، وتوسيع الخبرة؛ والذوق في الفن كالعقل في العلم إنما يحصلان بالدرس والتجربة والسن؛ والطبيعة

<<  <  ج:
ص:  >  >>