الشاعر المطبوع رجل يتأثر خياله بقوة، وينفعل قلبه بسرعة، ثم يكون بين خياله وقلبه تجاوب سريع مستمر؛ له أذن مرهفة الحس تفطن للإيقاع وتطرب للنغم، وذوق سليم الإدراك يعرف جمال الشعر ويعلم مواقع الكلم، ونفس ترى المُثُل الروائع فتحمَى وتتحمس، ثم يدفعها السمو الفني فيها إلى المنافسة الحرة والمعارضة النبيلة؛ وإذا تناول الفكرة الأساسية الأولية لموضوع ما، لا يلبث أن يراها في دخيلة نفسه تنمو وتتسع وتتركب وتتشعب وتتلون، ثم تغدو ولوداً خصبة؛ ثم لا ينفك شاعراً بالحاجة الملحة إلى الإنتاج الناشئ عن غزارة الفيض وحرارة العاطفة؛ ثم يدرك في يسر ما بين المعاني المجردة والمواد المحسَّة من علاقة، فيتخذ من هذه ألواناً لتلك، بحيث تولد هذه الأفكار في الذهن مكسوة بهذه الصور؛ تتمثل في خاطره المواد من ذات نفسها على الوجه الأنسب للتصوير والوضع الأجمل في النظم، فإذا كان الموضوع مؤثراً انثالت عليه العواطف معجلة تريد أن تظهر، مزدحمة تحاول أن تفيض
ذلك هو الشاعر المطبوع، وذلك هو شوقي؛ علمناه بالدرس، وعرفناه بالصحبة، فما انخزل يوماً في تحليقه وإسفافه عن مواقف العبقرية. ولئن كان في شعر شبابه مأسور الفكر، محصور الخيال، محدود النظر، لا يعبر إلا عن رأي القصر، ولا يصور إلا بألوان البيئة، لقد كانت هذه الحقبة الرسمية غيبة للشاعر عن نفسه، وذهولاً منه عن وجوده؛ وقديماً كانت صلات الشعراء بالملوك والخلفاء عاهة الشعر وآفة العبقرية، فلما أعتقته الحرب من رق الوظيفة، وأطلقته إنجلترا بالنفي إلى الأندلس، تيقظ فيه الرسول الشاعر والحكيم المصلح، فحلق بخياله في كل جو، وسطح بعقله في كل أفق، وشدا بالإسلام والعروبة والمصرية شدوا ردده كل لسان واهتز له كل قلب؛ ثم زاد في القيثارة العربية الأوتار الناقصة، فأضاف الشعر القصصي والشعر التمثيلي إلى شعرنا الغنائي؛ فكان بذلك وحده الشاعر الكامل!
شوقي كله من صنع الطبيعة، ولد منشداً كما ولد البلبل مغرداً؛ فالحكم على شعره بقوانين النقد الوضيعة، وآراء الناقدين الشخصية، لا يضعه في مكانه، ولا يزنه بميزانه. اقرأه ثم راجع فيه نفسك، واستشر في أثره حسك، فإذا وجدت ذهنك يشتغل، وشعورك يشتعل،