للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[في موكب الذكرى:]

أبو القاسم الشابي

(بمناسبة ذكراه السادسة عشرة)

في توزر، تلك البلدة الجميلة بتونس، وفي صباح يوم من أيام عام ١٩٠٩، فوق فراش وثير، وفي بيت مجد وجاه، رزق الشيخ محمد بن أبي القاسم الشابي طفلا أسماه (أبا القاسم)، تيمنا باسم جده.

فيا ترى هل علم المهد الوثير، والبيت الكبير، والشيخ الوالد، أن هذا اليوم كان يوم ميلاد شاعر عبقري، خلقه الله ليكون شاعرا وحسب، وأوجدته الطبيعة قطعة منها ليصوغها نغما شجيا، وهتافا ساحرا على أوتار القلوب الحساسة والعواطف الجياشة. . . حفظ أبو القاسم القرآن، شأن كل طفل يولد في بيت إسلامي، وبلد إسلامي في ذلك الحين، ولما شب التحق بجامع الزيتونة وهو صورة مصغرة من الأزهر في تونس.

أخذ شاعرنا يدرس علوم العربية على نظامها البالي العتيق، من متن وشرح وحاشية، وسار بخطى موفقة يعززها ذكاء وقاد، وميل طبيعي إلى القراءة والاطلاع، حتى نال شهادة (التطويع) عام ١٩١٦م، ثم التحق بكلية الحقوق التونسية، ونال إجازتها متفوقا، وأراد أن يتم دراسته، فتصدى له مرض الصدر جبارا عنيدا، قائلا: مكانك، فعكف الفتى على علاجه، ورجع مبتسما هادئا يتعلم في مدرسة الحياة. . . ويكب على القراءة والاطلاع إكباب المنهوم على الطعام، يقرأ في الأدب القديم باستيعاب وتفهم ويعب من نبعه الصافي، حتى أسلست له اللغة قيادها، وأتته طائعة مختارة، يقبل على الأدب الحديث، إقبال المشوق المستهام، بذهن صاف ومزاج شاعري كأنه المرآة يميز بين الغث والسمين في سهولة ويسر؛ وكان من نتيجة قراءته للقديم وإقباله على الحديث أن أخرج كتاب (الخيال الشعري عند العرب) وهو دراسة للأدب العربي في جميع عصوره على ضوء النقد الحديث. ولم يتعلم أبو القاسم لغة أجنبية، وهو بالرغم من ذلك مجدد، بل زعيم من زعماء المجددين في العصر الحديث. . . يعرف ذلك كل مطلع على شعره متذوق له، وهي ناحية من نواحي عبقرية شاعرنا المجيد.

وكان أبو القاسم مغرما بأدب المهجر؛ وبخاصة مدرسة جبران خليل جبران؛ ومع ذلك فقد

<<  <  ج:
ص:  >  >>