ظلت الإنسانية تتعثر في حلكة دامسة، منذ درجت على أديم هذه البسيطة، قروناً تتراجع بعيداً في أغوار الزمن السحيقة، لا ترى قبساً من نور يهديها الطريق في سدفة الظلام إلا غرائزها الفطرية التي نمت وفقاً للبيئة التي شب فيها الإنسان، والحياة التي أنتهجها لنفسه - حياة الأدغال والكهوف والصيد - وإلا لمحات من النور تلمع في الفينة بعد الفينة في أفق الإنسانية حينما يرسل الله نبياً من أنبيائه، لا يلبث بعده قومه أن يعودوا أدراجهم إلى أحضان الظلام.
أما العقل، ذلك النور الكامن في الإنسان، فكان يغط غطيطاً ثقيلاً، وإذا حاول اليقظة ردته غشاوة التقاليد، وكابوس الغرائز، وهبت عليه أعاصير الخرافات، فأطفأت الشعلة التي تجرأت أن تبرق في ذياك ألديجور المرعب.
نشأ الإنسان في هذا الظلام الروحي يقدّس كلُّ ما أعيته الحيلة في إدراك كنهه، وكل ما خشي سطوته وبأسه، يقدس الشمس مصدر الحرارة والضوء والحياة، والنهار، والرياح العاتية، والرعود القاصفة، والسيول الجارفة؛ ويقدم لها جميعاً القرابين حتى تهدأ ثائرتها، وترضى عنه فلا تعرقل سعيه في طلب القوت، وهو كلُّ مبتغاه، ولا تطرح بنسله، وهو كلُّ ما يحرص عليه.
نشأ الإنسان تستوعب قلبه الأثرة والمادة، والتعصب للجنس والقبيلة، التي يطمئن إلى حمايتها؛ ونشأ يمجد القوة والبطش.
وحاشاي أن أرجع إلى عهود الظلام فأسرد تاريخ الإنسانية الرهيب، تلك العهود التي نظن أنها مترامية في أعماق التاريخ أو ما قبل التاريخ، وما عهد الإنسان بها ببعيد؛ فعصور الحضارة منذ اكتشفت النار حتى اليوم تُعَدُّ شهوراً قليلة في عمر إنسان لا ينيف عن الخمسين؛ ولذلك كانتِ الحضارة في الإنسان غير أصيلة وهو دوماً نزاع إلى التحفظ والتمسك بأهداب التقاليد القديمة، سيان منها ما أستحسنه العقل الحر وما أستهجنه. ولذا أيضاً يخشى على الحضارة أن يعصف بها صراع هائل كالذي شهدنا في هذه السنوات الماضية فيرتد الإنسان ثانية إلى غياهب الظلمات.