بينت في مقالي السابق السبب الذي من أجله يكبر الفرس الفردوسي ويعدونه شاعرهم القومي فقلت إن الفردوسي بنظمه (كتاب الملوك) الذي يضم بين دفتيه تاريخ الفرس الأقدمين وأساطيرهم وآدابهم، قد أمد القومية الفارسية واللغة الفارسية الحديثة، بمد قوى، رسم للأولى حدوداً واضحة، وشرع للثانية منهجاً ظلت تسير فيه حتى يومنا هذا؟ والفردوسي بهذا الصنيع الجليل قد هيأ السبيل لظهور فارس الحديثة ذات الشخصية البارزة في تاريخ الشرق الحديث
ولكن ما السبب في أن شعوباً أخرى غير الفرس تحفل بالفردوسي وتجله، ولم تتحاش أن تعلن ذلك الاحتفال بذكراه الألفية؟ وجواب هذا السؤال موضوع هذا المقال
يعد الفردوسي عند علماء الأدب ونقاده شاعراً قصصياً من شعراء الطبقة الأولى، فهو في مرتبة هوميروس ودانتي وملتن. والشاعر القصصي العظيم هو الذي ينشئ ملحمة أي منظومة قصصية طويلة بليغة يعتبرها قومه غرة أدبهم. وحفظ هذه المنظومة من الذيوع والانتشار يتوقف على نوع موضوعها. فإذا كان الشاعر قد اخترع الموضوع اختراعاً وتخيله تخيلاً ثم أفرغ عليه بعد ذلك ثوب بلاغته وقوة تصويره فهي ملحمة محدودة الذيوع، يقبل على قراءتها خاصة الأدباء والمثقفين وأساتذة الأدب في الجامعات. ومن هذا الصنف (المهزلة) لدانتي و (الجنة المفقودة) لملتن. أما إذا ألف الشاعر موضوعه من الحكايات الشائعة في قومه، وأساطيرهم التي يعتقدونها، وأغانيهم التي يتغنون فيها بذكر ما اختلف عليهم من الأحداث، ثم عرض ذلك كله عرضاً شعرياً قوياً بليغاً، وكان في ذلك فيلسوف النظرة يتناول العالم من ثنايا الخاص فيصور العالم وهو يصور قطعة منه محدودة، ويصف الطبيعة البشرية وهو يصف قبيله ومعشره، ويتناول الزمن وهو يتناول برهة منه، إذا فعل الشاعر ذلك فقد كتب لملحمته الذيوع والخلود. وسرعان ما يحل الحديث الموفق