إن من يطالع المؤلفات الحديثة عن الحضارة العربية يرى آراء متضاربة في الأساس الذي قامت عليه، وفي المناهل التي استقت منها؛ ويرى كذلك تحاملاً عليها وانتقاصاً لقيمتها. فبعض المؤرخين لا ينسب إلى العرب أي فضل في خدمة المدنية، وينفي عنهم الابتكار، ويقول إنهم لم يكونوا غير نقلة للعلوم، وإن نتاجهم العقلي هو من الدرجة الثانية من حيث قيمته وأثره على تقدم العلم، وإنهم كانوا متأثرين بالثقافة اليونانية وقد اتبعوها وفضلوها على غيرها. وهناك فريق آخر من الأوروبيين يرى غير ذلك، ويقول بأن العرب فضلوا الثقافة الهندية وتأثروا بها أكثر من غيرها، وإنهم كانوا عالة عليها اقتبسوا منها أكثر ما جاءوا به من آراء ونظريات في العلوم والفنون، ويرى هذا الفريق في هذا نقصاً معيباً وناحية الضعف في الحضارة العربية
وقد حاولت أن أعرف الأساس الذي يبني عليه هؤلاء العلماء أقوالهم وأحكامهم في الحضارة العربية، فتوصلت بعد بحث إلى أن الأساس الذي يعتمدون عليه في هذا الشأن هو هذا الاقتباس، إذ يرون فيه النقطة الضعيفة في تاريخ العلوم والفنون عند العرب
إن اقتباس العرب عن اليونان أو الهنود أو غيرهم ممن سبقهم من الأمم لم يكن إلا بموجب غريزة في الإنسان تميزه عن الحيوان، فالإنسان على رأي الفيلسوف كورزبسكي يأخذ دائماً ما عمله غيره ويزيد عليه، وإن قوة الإنتاج في (الإنسان) لا تقوم وتقوى إلا على نتاج السابقين. وعلى هذا فليس في الجري على هذه الغريزة عيب أو مجال للتنقص
لا ننكر أن العرب اقتبسوا عن غيرهم، وهذا الاقتباس مما ساعد على تقوية قوى الإنتاج فيهم، ومما أدرى إلى إصلاح الأخطاء التي وجدوها في تراث الأمم التي سبقتهم والى إضافة بحوث ونظريات هامة جعلت العلماء المنصفين يعتبرون بعض العلوم من موضوعات العرب. وتصفح بسيط لتاريخ العلوم في الرياضيات والطبيعيات والطب والفلسفة والفلك يثبت صحة رأينا ويريك خصب القريحة العربية بأجلى بيان
قال البارون دي فو: (إن الميراث العلمي الذي تركه اليونان لم يحسن الرومان القيام به، أما العرب فقد حفظوه وأتقنوه. . . فهو لم يكونوا حفظة وخزنة للعلوم فحسب، ولكنهم توفروا