للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

[قروية فيلسوفة]

- ٢ -

قالت أم عامر - والمعنى لها واللفظ لي -: نشأت كما تنشأ القرويات الفقيرات، على التلول كالدجاج وأنا طفلة، وبين الحقول كالذئاب وأنا صبية. آكل الجشب وأستمرئه، وأشرب الكدر وأستسيغه، وألبس الخشن وأستلينه، وأفترش المدر وأستوطئه، وأعالج الصعب وأستسهله، والذي أحلى المر في فمي، وجمل القبيح في عيني، وألان الغليظ لجانبي، صحة كصحة الظبي الشادن لم تجنح يوماً لراحة ولم تحتج أبداً إلى دواء؛ ومرانه على عنف الطبيعة لا تفرق طاقتها بين صبح ومساء ولا بين صيف وشتاء؛ ونفس راضية تقنع بميسور العيش وتخضع لمكتوب القضاء، فأنا أشارك أمي في عمل البيت ولا تستثن غير الكانون، وأعاون أبي في شغل الغيط ولا تستثن غير المحراث، وفي الفترات القصيرة القليلة بين عمل وعمل، يجدونني في الحارات أمرح أو في القنوات أصيد. . .

أذكر أني كنت ذات يوم جالسة على حافة الجدول المنساب أتغدى أنا وأختي الصغيرة على خوان من النجيل، رأيت ابنة الباشا مالك الأرض وسيد الناس مقبلة، يقدمها كلبها الذئبي الضخم، ويتبعها خادمها النوبي النحيل، وفي يدها شص تطويه على قصبته وتنشره. وابنة الباشا صبية لا تجاوز العاشرة، فهي في مثل سني، تقيم طول عامها في المدرسة بالقاهرة فلا تلم بالريف إلا أياماً في أوائل الخريف. . . أقبلت حتى وقفت بازائي وحيت ثم ألقت شصها في الماء وجعلت تنظر إليه وتنظر إلي. . . فدعوتها إلى الطعام على عادتنا، فشكرت واعتذرت ثم قالت وهي تبتسم:

أتأكلين الحشيش كالبهائم؟

فقلت لها: ليس هذا حشيشاً، وإنما هو بقلة من أحرار البقول نسميها السريس؛ وأنا آكله ليخفف من ملوحة المش ويكسر من حرارة البصل.

فقالت وهي تمط شفتيها الرقيقتين: ولكن اللحم خير منه فقلت لها: نعم خير منه؛ ولكن موسمه لم يحن بعد، فنظرت إلي نظرة المتعجب المهتم وقالت: موسمه! وهل للحم موسم؟

فأجبتها: نعم إن للحم مواسم خمسة لا نأكله إلا فيها: نصف شعبان، وأول رمضان، والعيد الصغير، والعيد الكبير، وليلة عاشوراء. فقالت: وماذا تأكلون بقية العام؟

<<  <  ج:
ص:  >  >>