للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

[القصص]

شقاء

للأستاذ إسماعيل مظهر

هذه صورة من صور الريف، حملتها ذاكرتي مذ كانت شاباً في مقتبل العمر، وقد انتهيت من مجهود عام دراسي شاق في زمان كنا ندرس أكثر المواد باللغة الإنجليزية؛ وما كدت أنتهي من تاريخ رومية واليونان والحساب والهندسة والجبر وأدب شكسبير، حتى سارعت بالسفر إلى الريف أستجم بسكونه وسذاجته، وأطلب في حقوله وهوائه وشمسه راحة القلب وسلوى النفس ورخاء البال، وأسعد بالعمل في الحقول جهد استطاعتي لأشارك في عمل له نتاجه وثمره القريب. غير أني شعرت بعد قليل من الاستقرار في الريف أن الحياة قلما تهبنا الراحة التي نطلبها أو تحقق بعض ما نتمنى من الوحدة والاتساق يشيعان في نواحي العقل والنفس، ويعوضان على المرء بعض ما ينفق في حياة المدن من إرهاق يأنسه في تنافر الصور في المرئيات والمعقولات. ذلك بأن قريتنا الصغيرة كانت قد احتلت بكائن غريب الأطوار من نسل آدم وحواء، أجدر به أن يكون على نشوء الإنسان من صورة دنيا، المثل الأعلى والبرهان الصادق الملموس الظاهر للعيان

بمقربة من غدير يمر بجوار القرية. شجرة من الصفصاف تتدلى فروعها الطويلة فتمس صفحة الماء الجاري، حتى ليخيل إليك أن بين الماء وفروع تلك الشجرة صراعاً؛ كأن الماء يحاول أن يقتلعها ويجرفها بتياره، وكأن الشجرة تحاول أن تقاوم إرادته فتتشبث بالأرض. أما الغدير فيجري هادئاً مطمئناً بريئاً من فكرة العنف والفساد. وأما الشجرة فتطل بفروعها على صفحة الماء الهادئ، كأنها نرجس في خرافات الأقدمين.

فلا جلاد إذن ولا عراك، ولا تناحر ولا خصام، في ذلك العالم الجميل الذي يضم الشجرة والغدير، وما العاصفة والعراك إلا في خيالك وفي نظرك إذ يخدعك عن هذه الحقيقة، كما يخدعك عن كثير من حقائق الحياة.

وبين أصل الشجرة وحافة الماء منسطح صغير من الأرض كسته الأعشاب البرية، ونبتت فيه حشائش النجيل الجميلة وقليل من السعد، تناثرت من فوقه بضع شجيرات من عشب البرنوف الأخضر الزاهي. وقد هجر فتيان القرية وعذاراها الحسان هذه البقعة الجميلة،

<<  <  ج:
ص:  >  >>