للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[من أدب المدرسة]

أستاذ

للأستاذ علي الطنطاوي

لما بلغنا قرية (صاربتا) كان الصبح يتنفس، فطرقنا أول باب لقيناه، فلما فتح لنا واحتوانا (المنزل) المعد للضيفان، سقطنا من الكلال والإعياء كالقتلى، فلم نلبث أن غرقنا في لجة الكرى. ولا عجب أنيبلغ منا التعب هذا المبلغ وقد سرنا الليل كله على الأقدام نصعد جبلاً ثم نهبط وادياً ثم نتسلق الصخر. حتى أدركنا هذه القرية التي فرت من العمران، وتغلغلت في الأودية المقفرة من لبنان الشرقي حتى وجدت هذه الذروة التي لا يضارعها شيء في عزلتها وعلوها وضياعها بين الأرض والسماء فاستقرت عليها.

ولما أفقنا ورأينا احتفاء القوم بنا، وعجبهم من سُرانا إليهم وقدومنا عليهم، سألناهم وضربنا معهم في شعاب الأحاديث، فعلمنا أنه لم ينزل بلدهم (أعني أنه لم يصعد إليها. . .) غريب عنها قبلنا، وكانوا يكلموننا على تخوف وحذر، فلما انتسبنا إليهم، وعرفناهم بنفوسنا داخلهم شيء من الاطمئنان. غير أنهم لم يكونوا يجيبون عن أسئلتنا وإنما يحيلونها على الأستاذ. . .) ورأيتهم يذكرون الأستاذ كما تذكر الرعية الملك المحبوب، تبرق عيونهم حباً، وتخشع أصواتهم احتراماً، فكنت أعجب أن يكون لمعلم القرية، وهو لعمري أستاذهم مثل هذه المنزلة، وعهدنا بمعلمي القرى أن الجندي أكبر في عيون الفلاحين منهم. وقلت: ألا تدعون لنا هذه الأستاذ المحترم حتى نراه؟ فلما سمعوا هذه الكلمة اضطربوا وتلفتوا يتبادلون النظرات، وعراهم مثل ما يعرو المؤمنين سمعوا كلمة الكفر. وكانت سكتة طالت، فأعدت السؤال، فقال صاحب المنزل وهو يبذل أكبر الجهد حتى يمسك غضبه فلا يؤذي ضيفه: إن الأستاذ يزار ولا يزور. فلما سمعت ذلك اطمأننت وقلت: لا بأس، إنا نتشرف بزيارته، ولو علمت عادته ما سألتكم دعوته، فقوموا بنا إليه. فقاموا وقد سرى عنهم بعض الذي وجدوا، ومشينا نصعد في طرقات القرية الضيقة الملتوية، وأنا أتصور هذا (الأستاذ) بعين الوهم فلا أراه إلا مثل من عرفت من معلمي الصبيان، غير أن له فيما يبدو دهاء ومكراً، مَخرَق بهما على الفلاحين وموه عليهم حتى حسبوه شيئاً وما هو بشيء.

حتى إذا بلغنا ذروة الجبل وجدنا عليها بيتاً هو أعلى بيت في القرية و (العين) أسفل منه،

<<  <  ج:
ص:  >  >>