وحوله حديقة لطيفة، فدخلنا البيت فإذا فيه فرش نظيف، وأثاث من أثاث المدن، وخزانة كتب بالقرب منها مكتب صغير عليه أوراق وأقلام، وكتاب مفتوح عرفت من نظرة واحدة أ، هـ (الإحياء) للغزالي، ف والله ما أظن أني عجبت من شيء عجبي منه. ولبثنا هنية؛ ثم دخل علينا شيخ أبيض الحية، قد وضع على كتفيه عباءة ستر بها ثوباً من ثياب التفضل أبيض نظيفاً، فرحب بنا بلهجة فصيحة وانطلق يحدثنا. أما الفلاحون فقد جلسوا عند الباب لم يقتربوا من الشيخ إجلالاً له، وسكنوا كأن على رؤوسهم الطير.
كان الشيخ يتكلم وكنت أحدّ النظر إليه وأكدّ ذهني لأذكر أي رأيت هذا الوجه. فلما طال ذلك مني ولحظة قال: مالك يا بني؟ قلت: أظن أني أعرفك يا سيدي. فضحك وقال: وأنا أعرفك يا بني، أما كنت في المدرسة التجارية سنة ١٩١٨؟ فتأملته ورأيت كأني رجعت طفلاً أنظر من وراء ثلاث وعشرين سنة إلى أستاذي الجليل الشيخ (عبد الواسع)، فلم أملك أن صحت: أستاذي! ووقعت على يديه أقبلهما، وأقبل يمسح على ظهري ويقبل جبيني، وقد استعبر كل من حضر.
أستاذي الذي ترك المدرسة وأحيل إلى المعاش منذ عشرين عاما، وانقطعت أخباره عنا وحسبناه مات، لا يزال حياً؟ ويقيم في قرية (صاربتا) الضائعة بين السماء والأرض! إن هذا لعجب.
قلت وقد سكن المجلس بعد أن حركته هذه المفاجأة الغريبة: وكيف عرفتني ياسيدي الأستاذ، وقد غيرتني الأيام؟ قال: ما تغيرت عليّ، ولقد ذكرتك من أول نظرة. ألم تكن في الصف الخامس حينما انتهت الحرب، وخرج الأتراك من الشام ليدخلها الشريف؟ ألم تكن في المقعد الأول حيال الشباك، وإلى جانبك (سرِّى) أين هو (سرى) الآن؟ قلت: لا أدري ياسيدي، ولم ألقه أبداً بعد تلك السنة. قال الشيخ مترفقاً ناصحاً بلهجته التي كان يخاطبني بها وأنا صغير (لم أنسها) قال: ولم يا بنيّ؟ لماذا لا تصل إخوان المدرسة؟ أما علمتك الحياة أن صداقة المدرسة خير صداقة وأمتنها؟ أصلحك الله يا ولدي.
وأطرق الشيخ يفكر، ثم قال: هل علمت يا ولدي أن المعلم يتمنى ألا يكبر تلاميذه أبداً، وأنه لا يتصورهم إلا كما عرفهم أول مرة ولو صاروا رجالاً؟ أنا لا أرى فيك الآن إلاَّ ذلك الصبي الذي كان في المقهد الأول حيال الشباك. فقدر المحنة التي يصاب بها المعلم حين