قلت: ومن عدنان؟ قال: لا. لم يكن معكم، هو أصغر منكم. عدنان هذا كان من أصغر تلاميذي وأحبهم إليّ. لقد جعلته الأيام ناظر المدرسة التي كنت فيها، فتصوره وهو يدعوني إليه ويستقبلني قاعداً، ويأمرني بأمره. ولقد نالني مرة بسوء لأني لم أوفه ما يراه حقه من الاحترام. وكيف أحترمه يا ولدي وأنا لا أقدر أن أرى على كرسيه إلا عدنان الطفل ذا الشعر الذهبي؟ كيف أحترمه؟ أأحترم ولدي! سامحه الله. سامحه الله لقد آلمني. وآذاني.
إن المعلم يحس بوخزة في كبده إذا أعرض عنه تلاميذه أو أنكروا أو ترفعوا عليه. كأن أولئك الأطفال هم الذين ترفعوا عليه. لا يعلم المسكين أن الطفل لا يبقى أبد الدهر طفلاً. . . لا. لا يتخيل ذلك أبداً. . .
وسكت الشيخ قليلاً ثم رجع يقول: وكنت ترفع أصبعك دائماً، أرأيت؟ أني لم أنسك. وكيف ينسى المعلم تلاميذه وهم بعض ذكرياته، والذكريات هي الحياة.
ثم سألني: وماذا تشتغل أنت الآن؟ فضحكت وقلت: معلم.
قال: آه. . . مسكين. . . لماذا اخترت هذه المهنة يا ولدي؟ قلت: أني سأتركها يا سيدي؛ قال: وتظن أنك تستطيع؟ إن تلاميذي الذي أحببتهم ومنحتهم قلبي، قد أنكروني. . . لم أعد أخطر لهم على بال. لم يزرني منهم أحد. . . لقد رأيت منهم ألوان الجحود، ولكني لا أزال أحبهم، وأتمنى لو أستطيع أن أضمهم إلى صدري. . . آه. . . كم يتألم الأب إذا رأى ولده يعرض عنه وينكره ويمر كأنه لا يعرفه؟ لم ألق منهم خيراً ومع ذلك فأنا أحب أن أنشئ غيرهم، وأن أصب البقية الباقية من روحي وحياتي في نفوس أطفال جدد، أعلم أنهم لن يكونوا خيراً من أولئك، ولكن هذه هي آفة المهنة. . . إنها مهنة ليس فيها إلا الألم. . . ولكن صاحبه يستمرئه ويجزع لفقده كصاحب (الكوكائين) يأخذه وهو يأخذ حياته، فإذا افتقده حنّ إليه. . . أليس هذا من الغرائب؟.
إني أمر على مدرسة القرية، فأسمع الطلاب يرددون درساً، أو يرتلون أنشودة، فيخفق قلبي في صدري، وأحسد هذا المعلم الذي أخذ مني أولادي. . . لا تعجب يا ولدي. . . سل الفلاح الذي يشق الأرض ويغرس فيها البذر وينتظر النبتة الضعيفة. . . فإذا ظهرت تعهدها بالسقي والعناية، وقاس طولها يوماً بعد يوم، فلا تنمو أنملة إلا وضع في هذه الأنملة