كان للفصل الذي كتبته منذ أسابيع في (النقد المزيف) أثران مختلفان: اثر رضيته أنت فسميته نجاحا صحفيا، لأنه أثار حواراً طريفاً بين صديقين من كبار الكتاب في مصر فدعواك بما شققا منه إلى المشاركة فيه؛ واثر سخطته أنا فسميته مصاباً أدبيا، لأنه ألب عليَّ كثيراً من طوائش الأفهام في مصر وفي غير مصر؛ ففريق ظن أنني عنيته بهذا المقال، كأنه لمح في نفسه آثار تلك العيوب فاتهم ثم حكم ثم غضب لأنني قلت الواقع وقال الحق، ثم حاول بهذا الغضب أن يستفزني إلى المسافهة؛ وفريق زعم أنني غمطت مدارك الشباب فاستعجزتهم عن النقد، واستحمقتهم في تكلف ما لا يحسنون بحكم السن والدرس والطبيعة؛ ثم جعلوا رأيك في ذلك نقيض رأيي، ومضوا يتعززون به ويدافعون وليس منا هجوم، ويرافعون وليس بيننا قضية
الواقع أنني هاجمت نوعا من النقد فشا على بعض الأقلام الرخوة، يصور الحق بلون الباطل ليضحك، ويبرز الجميل في مظهر القبيح ليسيء؛ وهو ينبعث إما من مكامن الحقد فيرمي إلى التجريح، وأما من مواطن الغرور فيرمي إلى الهدم. وذلك الضرب من الهوى العابث يترفع عنه الشاب والشيخ، بدليل أن أحدهما إذا ملكته الحفيظة لجيله رمى به الآخر. على أنني حين قلت أن النقد المنطقي ملكة فنية أصيلة، وتربية أدبية طويلة، وثقافة علمية شاملة؛ وان الناقد بهذا الاعتبار يشارك المشترع في صدق التمييز، والفيلسوف في دقة الملاحظة، والقاضي في قوة الحكم، كان في نفسي - واعترف بذلك - أن الشيوخ في الغالب هم أصحاب هذا الفن وأرباب هذه الملكة. وأقول (في الغالب) لأني قرأت منذ سنين للأستاذين: (غريب) و (المصري) وهما من كتاب الشباب فصولا في النقد كانت موضع الإعجاب في (البلاغ). ولكنك تقول إن النقد ظاهرة من ظواهر الشبيبة تحدث دائماً في شرَّة العمر، حتى إذا انكسرت (مال الكاتب مع سجيته، واختار الطريق الإيجابي الذي يسلكه في إنتاجه)، كما وقع لك؛ ثم تخرج من ذلك إلى أن العلة في ركود النقد هي أن الشباب لا يقرأ، وإذا قرأ لا يمحص، وإذا محصلا يثور فينقد. وفي هذه الفكرة وحدها ينحصر الخلاف بيني وبينك.
أنا أفهم أنك تنصرف عن النقد إلى معالجة السيرة النبوية بهذا التحليل المنطقي البارع،