للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[مقالات في كلمات]

للأستاذ علي الطنطاوي

يؤمنون بالحمار!

وليس هؤلاء الذين يؤمنون بالحمار من بقايا المشركين الأولين الذي يكفرون من جهلهم بالله رب العلمين، ويؤمنون بالِجبتِ والطاغوت، ولا الفراعنة الأقدمين عباد العجل، ولا من أخوان البوذيين الذين يؤمنون بالبقرة، ولكنهم قوم من المسلمين، ومن كبار الأدباء الشاميين، انظروا فرأوا للحمار مزايا وفضائل ليست لهذا الإنسان الذي يؤمن به أخي وصديقي الأستاذ عبد المنعم، فهو لا يكفر بالله، ولا يجحد بلسانه الإله الذي خلق له هذا اللسان كما يفعل الإنسان، ولا ينافق ويتخذ له وجهين، ولا يثير الحروب على إخوانه في الحماريّة، ولا يعرف جريمة القتل، ولا رذيلة الانتحار، ولا تشغله شهوته عن واجبه الحماري كما تشغل بني آدم، ولا يفكر في الأتان إلا مرّة واحدة في السنة ليقوم بقسطه من فضيلة العمل على بقاء النوع. . . ولا ينحرف بغريزته عن طريقها ف (يقترب. . .) من حمار مثله ويدع جميلات الأُتُن ذوات الخد الأسيل والذنب الطويل والساق النحيل. . . كما تنحرف غرائز بعض بني آدم. . ولا تتبرج إناثه التبرج المغري، ولا تعرف البغاء الرسمي في (المحلات العمومية) ولا البغاء الطليق على (البلاج)، ولا البغاء الفني في السينما والمجلات المصورة. . .

ولم يشاهدوا أتاناً ترقص رقصاً خليعاً، أو تدخل فرقة (مرشدات) ولم يسمعوا حماراً يغني غناء مخنثاً، أو ينظم شعراً رمزياً، مع سهولته عليه، وإنه لا يكلفه إلا أن ينهق نهيقاً من بحر جديدي مبتكر؛ ورأوه مع ذلك صابراً على ما قدر عليه، راضياً بما قسم له، لم يستغل هذه الحرب ليسرق شعير إخوانه. . . لا يغش ولا يرتشي ولا يخون ولا يعرف المكر ولا الحسد، ولا يتظاهر بالدين ليصل إلى الدنيا، ولا يتخذ العمل في الجمعيات الإسلامية سلما إلى المناصب؛ وهو يطيل التأمل ولكنه لا يؤذي أبناء جنسه بتدوين فلسفته، ويأتي حين يصوت بسجحات وصيحات لها في موسيقى الحمير جمال، ولكنه لا يكذب فيدعى أنه من كبار الملحنين؛ ويجئ بالبلاغة الحمارية المحدثة، ولكنه لا يزعم أنه مجدد في البلاغة كما يزعم بعض مشايخ بني آدم، لئلا يقال له: اخرس، فما تجديدك هذا إلا نهيق!

<<  <  ج:
ص:  >  >>