يعاني الشرق الآن محنة من أشد أنواع المحن، سببها أنه بدأ يحمل عبء نفسه، وقد كان يحمله عنه المحتل
كان المحتل يصرّف أمور الأمة كما يرى، فيحرّم ما يشاء ويحلّ ما يشاء؛ ويعز من يشاء، ويذل من يشاء؛ فإذا استعان ببعض أفراد الأمة فبأيديهم لا بعقولهم؛ وقد يستعين بعقولهم أيضاً ولكن على شرط أن تكون في خدمة عقله، وفي الاتجاه الذي يرسمه قلمه، فمن حدثته نفسه أن يفكر تفكيراً حراً طليقاً فالويل له. أمسك بيده المال وهو عصب الأمة، ينفق منه كما يشاء في الوجوه التي تخدم سلطانه، ويبخل كما يشاء فيما يعارض منهاجه؛ فهو شحيح كل الشح على التعليم العالي، وعلى الجيش وما إليه؛ وهو سخي فيما يصلح الأرض ويدر الثروة. وعلى كل حال لم يقف من الأمة موقف المعلم النزيه يؤهل تلميذه ليكون رجلاً يوماً ما، ويمرنه على أن يستقل بنفسه شيئاً فشيئاً، إنما وقف منه موقف السيد من عبده يسخره وله الغلة، ويطعمه ما يسد رمقه ليقوى على العمل له
ثم كان أن جاهد الشرق جهاداً شاقاً طويلاً جعل حكم الأجنبي له شاقاً عسيراً، وسَاعدت الأحداث الخارجية وما فيها من قلق واضطراب على أن يغير المحتل سياسته، ويحمّل الأمة أكبر عبئها، ويطلق لها اليد في التصرف في أكثر شؤونها. فأصبحت الأيدي التي كانت تعمل بعقول غيرها غير كافية، واشتدت الحاجة إلى العقول المفكرة، وأساليب الحكم العادلة الحازمة، فإذا بالشرق أمام مدرس يلقي لأول مرة أول درسه، أو قاض يجلس على منصة القضاء أول عهده، حتى الذين تولوا الحكم في عهد الاحتلال والحكم بعد الاحتلال يشعرون بالفرق بين الحكمين، واختلاف الصعوبة في العهدين، فقد كانوا في عهد الاحتلال أيديا مسخرة، وهم في عهد الاستقلال عقول مدبرة
أول درس يجب أن يتعلمه الشرق تضحية الحاكم؛ واعني بذلك أن يضحي بشهواته في سبيل تحقيق العدل الدقيق، فلا تستهويه شهوة المال، ولا شهوة الجاه، ولا شهوة المنصب فتصرفه عن إحقاق الحق وإبطال الباطل. وطبيعي أن الشعب لا يرضيه من الحاكم في عهد الاستقلال ما كان يرضيه منه في عهد الاحتلال؛ فقد كان في عهد الاحتلال يصبر