كانت الخطابة ولا تزال من أقوى وسائل الإقناع، وهي أفعل في النفوس من الكتابة؛ وشتان بين الكلام الحي والكلمات الجامدة؛ وإذا كان الكاتب يعرض عقله ومنطقه فأن الخطيب يبلغ موضع الإقناع من نفوس السامعين بروحه، ويطبعهم بطابع شخصيته. ولا شك أن لروح الإجتامع أثرها في النفوس، فقد فرغ علماء النفس من تقرير أن الفرد في الجماعة أشد قابلية للتأثر، وأعظم اندفاعاً في طريق الحماسة، ولذلك ترى بعض الناس إذ خلوا إلى أنفسهم، وتخلصوا من حماسة الجماعة فقرءوا في هدوء الخطب التي سبق لهم سماعها عجبوا كيف كان لهذا الكلام العادي المبتذل كل هذا الأثر البليغ في نفوسهم. ولا تنس أن للبيئة والظروف المحيطة والذكريات المثارة أثرها الفعال في النفوس. وليس من يماري في أن المرحوم سعد باشا كان في طليعة الخطباء؛ شخصية بارزة، وذهنية خصبة، وعقلية جبارة، وبديهة حاضرة، ولفظ مختار، وقدرة على الارتجال لا تجارى ولا تبارى، ولكن لا تعتقد أن هذه المواهب مجتمعة كانت هي وحدها العناصر المؤلفة لشخصية (سعد الخطيب). وإنما كان سعد إذا نهض يخطب نهضت معه الذكريات، وتراءت حوله المثل الوطنية العليا. كان سعد إذا خطب ثارت أمام الخواطر ذكريات مالطة، وسيشيل، وجبل طارق؛ والحرية المسلوبة، والاستقلال المغصوب، والضحايا والشهداء الذين بذلوا أرواحهم وأراقوا دماءهم في سبيل الحرية والاستقلال. والخطب الخالدة في التاريخ التي ألقاها عظماء الرجال تستمد قوتها وخلودها من عظمة شخصياتهم ورهبة المواقف التي كانوا يقفونها، أكثر مما تستمد هذه القوة وذلك الخلود من قيمتها الذاتية. ولو أنك عرضتها على محك النقد الصادق، وحللتها في ضوء المنطق والمعقول، لوجدت أنها لا تكاد تجاوز دائرة غيرها من الخطب المألوفة. وإنما أثار طارق بن زياد الحمية في نفوس جنوده حين أهاب بهم:(العدو أمامكم والبحر وراءكم. . .) لا بجمال الصورة وروعة التمثيل وحدها، وإنما أثارها بشخصيته العظيمة، والموقف التاريخي الذي كان يقفه. وإذ هتف نابليون في جنود حملة إيطاليا غداة المعركة التي اشتبك فيها مع جنود النمسا فسحقهم في سهول لومبارديا: (إن الحكومة مدينة لكم بالشيء الكثير، ولكنها لا تستطيع أن توفيكم حقوقكم، واليوم ترون