ما أكثر ما نخدع أنفسنا بأصدقائنا لسلامة في طويتنا، أو غفلة عن النظر إليهم بغير عين الصديق.
كثيراً ما سمعت الأستاذ العقاد يقسم الصداقة إلى أنواع، ويصنف الأصدقاء أصنافاً، هذا نصف صديق من نوع كذا، وذاك ربع أو ثمن صديق من صنف كيت، وكانت لائحة الأصدقاء عنده أشبه ما تكون بورقة ذات خطوط وتعاريج في الطول والعرض يثبتها الطبيب فوق سرير المحموم تسجل المواسية فيها درجات الحرارة وتقلباتها. وما كان يضير أستاذي العقاد أن يسقط صديقاً من صفوف الأنصاف إلى الأثمان أو يرفع آخر إلى أعلى درجة، ولا يؤاخذهم على بادرة أو هنة أو هفوة إلا بالحساب القياسي لمنزلتهم من الصداقة.
كنت أستغرب تلك التقسيمات ولا ترتاح نفسي إليها، لأني تدربت منذ الصغر على أن مكان الصداقة هو الذروة إن تزحزحت عنها هبطت إلى الحضيض، وأن الوسط بين الذروة والحضيض هو النفاق، وكنت إن منحت صداقتي لإنسان فإني أمنحه إياها بسخاء كامل، وإن ظننت بها، فإني أظن ظن الشحيح المتأبي، وكنت أعتمد في الحالتين على الحدس والجاذبية.
لقد قطعت أشواطاً من حياتي، فما أكثر من خاصمت خلالها من أصدقائي، وما أقل، بل ما أندر من عاديت منهم لاعتقاد مني بأن الخصومة من شيم الأصدقاء العقلاء. أما العداوة فهو من أوصال الجهلاء والأغبياء، وإني أنزه أصدقائي عن الغباء والجهل لأنهم كلهم بين أديب ومن خيار المثقفين.
لقد أدهشتني يا صديقي، يوم عاتبتني بشدة، وعهدي بك الدمث السلس، وما عاهدت بك الفجاجة والتوعر قط، لقد أذهلتني ساعة سألتني عن ذلك الإنسان الذي جالسنا فترة بل هنيهة وانصرف. لقد أذهلتني وقد كانت نبرة الكلمة تنطلق من بين شفتيك كالسهم، تسألني بشدة وصرامة أنى وكيف عرفت ذلك الوجه الكالح المكفهر، والقدم الفظ السمج الغليظ، لقد حيرتني وأنت تنقض كالصاعقة تنزل البلاء بصديقي الذي لم تره إلا في تلك الجلسة