العابرة. ولم تسمع سوى نتف من حديثه الخاطف، لقد تحيرت لا لأنك استثقلت روح صديقي ومججت كثافة ظله، بل لأن حكمك الجائر ينصب على ذوقي، وعلى معرفتي وتقديري فيمن أختار من الأصدقاء.
لم أحاول إقناعك بأنك جائر في حكمك على صديقي المسكين لأني كنت في تلك الساعة مشغول الذهن بك وقد جاش صدرك بالغيظ مني، لقد توهمت أنك تنتزع مني كل الصفات والمزايا التي أحببتني من أجلها، توهمت ذلك، بل دهمني التوهم فجأة، أنا الذي طالما اتفقت معك في الذوق والتقدير، والاختيار والإعجاب، ولم نتخلف في حكم واحد على أمر واحد إلا فيما قل أو ندر. وقد كنا في هذا الاختلاف النادر نلجأ إلى المنطق، والذوق والقواعد المقررة والمتعارفة، لنصل إلى الحق والخير فنقف بجانبهما.
لقد انطويت على نفسي أستعرض ملامح وجه ذلك الصديق المسكين، أستذكر حكاياته وتصرفاته، أردد أفكاره وأحكامه، استجلي ماضيه وحاضره، وأستشف غرائزه وملكاته، من جود وبخل، وكرم ولؤم، وأنفة واستكانة، وكبر وتواضع، وشجاعة وجبن، إلى آما هنالك من ملكات تحتم الصداقة معرفتها لتقر الصديق بنفس يقظة، وعين لماحة، وذهن يعي ويحصي ويسجل.
فعلت ذلك لا لأجنس خلائق صديقي، بل لأقارن بين حدتك، وبين جاذبية جذبتني إليه ودفعنك عنه، وبين إئتناسي به ونفورك منه، ولمعرفة الأسباب التي جعلتك ترضى عن أكثر أصحابي، على قلتهم، وتغضب على هذا الفرد الوحيد الذي لم أر فيه وأسمع منه ما يبعدني عنه كما نفرت أنت منه وأنكرته. لم تعد المسألة وقفاً على صديقي ذاك، بل تحولت فصارت مسألتي أنا ومسألتك أنت، وهل هذا الاختلاف الطارئ بيننا سيكون مقدمة لاختلافات تليه، وتباين في الآفة الروحية والانجذاب إلى الأشخاص والأشياء؟
من صعاب الأمور تكليف النفس الخروج على سجيتها، ومن أشقها عليها تحميلها صعاباً تثقل على الولاء بين الأصدقاء، ولكن للظن والقطانة حق علينا، بل لنا عليهما حق اللجوء إليهما في كل ما تدعو الحصافة إليه، وقد أظهرا لي في ذلك الصديق أموراً يحسن السكوت عن أكثرها لبعدها عن الغاية التي كانت موضوعاً لكتابة هذه الرسالة.
أية فائدة لغير الباحث المحلل في معرفة ما إذا كان صديقي ذاك شجاعاً أو جباناً، متديناً أو