للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

غير متدين، مؤمناً أو ملحداً، متعصباً أو متسامحاً، كريماً أو لئيماً، ولكني أقول في مجال العابر بعض ما استنتجت من خلائقه دون البعض الآخر: إنه مخلوق يجمع بين الأضداد التي ذكرتها كلها جميعا مضبوطاً على القد المضبوط، يتقلب في أمواجها المتدافعة والرهو، وسبب ذلك على ما يبدو لي، المرض والثقافة، فهو مريض حقاً، ومثقف متبحر متمكن، وأنت تعلم يا صديقي أن لا محيد للمثقف الحصيف عن تغليب سلطان العقل على الإيمان، كما لا مهرب للمريض من اللجوء إلى المجهول والاستغاثة به، وعلى هذا القياس أقول إنه يجمع بين الشيء وضده في زمن واحد، ولمحة واحدة.

قد تسألني عن كنه هذه الصداقة وارتباطي بها ردحاً من الزمن فأجيب: الكمال نسبي. والإنسان الذي تتوفر فيه أكثر صفات الكمال المثالي نادر، والشذوذ عنصر أصيل في طبيعة الأديب والعالم، وإن رضي الإنسان عن ناحية من الصداقة، لا يعني الرضوان المطلق عن بقية النواحي، والانجذاب إلى الصوب الداني من النفس هو الأساس الذي يشاد عليه بناء الصداقة، ومن هنا نجد أن قاعدة الأستاذ العقاد في تقسيم الصداقة إلى أنصاف وأرباع وأثمان إنما هي قاعد صحيحة.

وصديقي ذاك قوال مدره، ذرب اللسان، حاضر البديهة، واضح البيان (يأخذ من كل جانب من جوانب الأدب والعلم بطرف) فياض في الأحاديث يستقيها من مصادرها، ولست أدري كيف يتوصل إلى تلك المصادر، وإذا ما بدت لك أطراف من الإفك في رواياته فإنه من الصعب أن تتبين غير ملامح الجد في وجهه وتصلب قسماته. وهو كأكثر الناس في المغالاة والمبالغة وتزوق الكلام، مزاح ضحاك، شديد اللدد، يتقلب في لحظة واحد من حالة اللؤم وبوادرها مثلاً إلى حالة طفلة ساذجة. وهو بحكم العلة المرضية التي تنخب كبده (يدعي قول ما كان يود أن يقوله لمجادليه ما قاله لهم حين الجدل، وهو لهزاله وضعفه تصلف ويتكبر تكبر الأقوياء. فأنت ترى أن لا غيوم في أفق هذا الصديق، ولا مذاهبه مستعجمة، ولا مسالكه شائكة، ولا ثرثرته رخيصة، وأن من السهل الهين الأخذ منه ما يعرف والظن عليه بما نعرف، وهو على كل حال طرفة بالقياس لمن نعرف من الناس، ونمرة ظريفة من نوع من الأنواع.

وحدث مرة أن سألني ذلك الصديق سؤالاً لا يمت إلى حياتنا الأدبية بصلة، ولا يدنو إلى ما

<<  <  ج:
ص:  >  >>