عهد إلي الأستاذ صاحب (الرسالة) أن أكتب عن ديوان صاحب العزة الأستاذ علي الجارم بك إذ كنت عن كثب من الديوان عند طبعه، وكان بيني وبين نغمات هذه القصائد والخيال الخصب الذي ملك علي سمعي وبصري في نسمات الأسحار، حديث ومجاوبة؟ وربما قرأت القصيدة ورددتها مراراً، وظللت مدة طويلة مأخوذاً بسحر البيان حتى أنسى الغرض الذي شرفني الشاعر بالقيام به. فأما إن كتبت عن الديوان فإنما أكتب عن مبلغ علمي، جاهداً أن أصور للقراء شخصية شاعرنا ممثلة في شعره، وأن أرسم ما أحسست به عند قراءتي شعره
إذا جلست إلى الأستاذ الجارم بك رأيت رجلاً تمثلت فيه أعصار الآداب العربية وفنونها من عصر امرئ القيس إلى اليوم؛ فهو قد قرأ الآداب العربية منذ نشأته، ووقف وقفة طويلة عند كل شاعر وكاتب، وحفظ ما استطاع أن يحفظ، فامتزج ذلك كله، وجاوبته نفس نزاعة إلى الأدب فكان الأستاذ الجارم بك. إن شئت أن ترى المتنبي وعمقه وغزارة مادته وجبروته الشعري فأجلس إلى الجارم بك وأقرأ شعره. وإن أردت أن ترى حضور البديهة ورقة الشعور ولباقة التعبير والروح الشعرية الوثابة التي تتمثل في الحديث والظرف والسلام والكلام، فأجلس إلى الجارم بك. فهو شاعر بطبعه، شاعر ببديهته، شاعر بكل معنى من المعاني التي تلمحها في روح الشعراء
إن قرأت أدباً عباسياً أو أندلسياً فرأيتهم يقولون: إن الشاعر لا يكون شاعراً حقاً إلا إذا تمكن من أدوات الأدب، ومارس شعر العرب، وملك ناصية الأدب، ثم أعانه على ذلك قريحة وقادة وبديهة مسعفة وخيال قوي، فإن ذلك كله موفور لشاعرنا الكبير
كان أستاذنا مصطفي صادق الرافعي - طيب الله ثراه - ينكر على الشعراء الذين أنبتتهم طبيعة مصر عمق الخيال وامتداد النفس الشعري؛ وكان يرى أن الشعراء المصريين صغار الدواوين لا يقف الواحد منهم على شاطئ بحر الخيال حتى ينزوي عن ذلك البحر. فلما حدثني بذلك الرأي، وكتب عنه في الصحف عزّ عليّ ذلك؛ فجئته في اليوم التالي بعدد