لم يقف ابن سينا عندما تقدم في إثبات وجود النفس ومغايرتها للبدن، بل افترض فرضاً آخر هو من أبدع حججه وأكثرها ذيوعاً، ونعني به فرض الرجل المعلق في الفضاء. فلو تصورنا أن شخصاً ولد مكتمل القوى العقلية والجسمية، ثم غطى وجهه بحيث لا يرى شيئاً مما حوله، وعلق في الهواء أو بالأولى في الخلاء كي لا يحس بأي احتكاك أو اصطدام أو مقاومة، ووضعت أعضاؤه وضعاً يحول دون تماسها أو تلاقيها، فإنه لا يشك بالرغم من كل هذا في أنه موجود وأنه كان يعز عليه إثبات وجود أي جزء من أجزاء جسمه، بل قد لا تكون لديه فكرة ما عن الجسم والوجود الذي تصوره مجردا عن المكان والطول والعرض والعمق، وإذا فرض أنه تخيل في هذه اللحظة يداً أو رجلا فلا يضنها يده ولا رجله، وعلى هذا إثباته أنه موجود لم ينتج قط عن الحواس ولا عن طريق الجسم بأسره؛ ولابد له من مصدر آخر مغاير للجسم تمام المغايرة وهو النفس. يقول ابن سينا:(يجب أن يتوهم الواحد منا كأنه خلق دفعة وخلق كاملا، ولكنه حجب بصره عن مشاهدة الخارجات، وخلق يهوى في هواء أو خلاء هوياً لا يصدمه فيه قوام الهواء صدما ما يحوج إلى أن يحس، وفرق بين أعضائه فلم تتلاق ولم تتماس، ثم يتأمل أنه هل يثبت وجود ذاته فلا يشك في إثباته لذاته موجوداً، ولا يثبت مع ذلك طرفا من أعضائه ولا باطنا من أحشائه ولا قلبا ولا دماغا ولا شيئا من الأشياء من خارج، بل كان يثبت ذاته ولا يثبت لها طولا ولا عرضا ولا عمقا. ولو أنه أمكنه في تلك الحال أن يتخيل يداً أو عضواً آخر لم يتخيله جزءاً من ذاته ولا شرطا في ذاته؛ وأنت تعلم أن المثبت غير الذي لم يثبت، والمقر به غير الذي لم يقر به، فإذن للذات التي أثبت وجودها خاصية لها على أنها هو بعينه غير جسمه وأعضائه التي لم يثبت)، وواضح أن هذه البرهنة قائمة على أن الإدراكات المتميزة تستلزم حقائق متميزة تصدرعنها، وان الإنسان قد يستطيع أن يتجرد من كل شيء اللهم إلا