طالما جلست في صباي ساعات طويلة أتأمل قوافل النمل تسير على الحيطان. وكنت أحياناً أدنو منها وأصيح بأصوات مدوية، فما يبدو عليها أنها سمعت شيئا؛ فالنظام هو النظام، والخطى هي الخطى، والتجارة الضخمة المحمولة على الأعناق: وهي جناح (صرصار) كبير، ما زالت تتهادى مطمئنة في طريقها إلى عاصمة المملكة العتيدة داخل ذلك الثقب البارز في أسفل الجدار. وكانت الجيوش قد قاربت المدينة؛ وخرجت جيوش أخرى تستقبل القادمين وتحمل عنهم بعض العبء. وكأن الجميع في فرح وحركة ولغط لا يصل صداه إلى مسامعي الغليظة؛ كما أن أصواتي الراعدة لا تبلغ آذان تلك المخلوقات الدقيقة. فحدثتني النفس أن أحدث حدثاً في تاريخ هذه (البشرية) الصغرى، فأتيت بكوب من ماء وصببت مما فيه على القوافل الظافرة. ولبثت أنظر إلى الكارثة في ابتسام، فإذا شمل الجيوش قد تمزق، وإذا الذعر قد دب في الجموع. ولكن الفلول سرعان ما عادت تحمل (التجارة) من جديد في حرص المستميت. عند ذلك أقصيت الكوب وقد تحرك قلبي وقلت في نفسي: إن هذه المملكة ولا ريب تأخذ الآن عبثي على سبيل الجد، وأنها ولا شك تحسب ما حدث الساعة ظاهرة من ظواهر الطبيعة القاسية. فما هذا عندها إلا سيل العرم، أو طوفان هائل، أو قضاء هبط من السماء. وتأملت لحظة شأننا نحن (البشرية) الكبرى، وقلت: من أدرانا أنا لسنا أحسن حالاً من هذا النمل؟ ومن أدرانا أن ما نسميه ظواهر جوية وطبيعية من زوابع وأمطار وزلازل وبراكين ليس إلا عبث مخلوقات أخرى ذات أحجام وصفات لا نستطيع لها تصوراً؟ ومن أدرانا أن ليست في هذا الكون أصوات هيهات لآذاننا الصغيرة أن تدرك وجودها؟ لم لا نكون نحن أيضاً نملاً أرقى من هذا النمل وأحط من نمل آخر من جوهر آخر لا نعرف ما هو؟ إن الله لأعظم مما نظن؛ وإن حواسنا لأقل إدراكا لما في الكون مما نتخيل!