ويظن بعض المتدلين من المتعصبين على العرب انه لم يكن للمسلمين من فضل على الحضارة إلا ما كان من حفظهم للثقافة اليونانية. فهم لذلك حفظة أكثر منهم مبتكرين؛ والفساد في هذا الظن ظاهر كل الظهور. فإن المسلمين وان نقلوا الكتب اليونانية، وحفظوا الثقافة الإغريقية من الضياع حتى تسلمتها منهم أوربا في العصور المتأخرة الحديثة، واعتمدوها في بناء ثقافتهم؛ فقد كان لهم إلى جانب ذلك كله مناح ثقافية خاصة بهم، لم يعتمدوها بها على غيرهم، وهم من ناحية ما انشئوا وابتكروا قد عجلوا في سير الحضارة الأوربية الحاضرة. حتى لقد قال فيهم برناردشو:(لو لم يكن المسلمون في التاريخ لتأخرت الحضارة عدة قرون، ولما قطعت هذا الشوط العظيم إلا بعد أجيال طويلة والحق في هذا القول بين جلي؛ فقد اتصل الأوربيون بالمسلمين في الأندلس اتصالا عظيما، وتتلمذوا على فلاسفتهم وعلمائهم؛ وتأثروا بأساليبهم الفكرية إلى حد كبير، حتى إن (ريموند) الذي كان مطرانا لطليطلة قد أسس في القرن الثاني عشر جمعية لنقل أهم الكتب الفلسفية والعلمية العربية إلى اللغة اللاتينية وما زالت جامعات باريس حتى اليوم تدرس تلامذتها وطلابها منطق أسطو المترجم من العربية إلى اللاتينية، وتعتمد إلى حد كبير على شروح العرب وتعاليمهم على جميع الكتب الفلسفية الهامة التي ترجموها، ولقد كان فردريك الثاني يعرف اللغة العربية فاطلع لذلك على الفلسفة العربية في مصادرها الأصلية، وبلغ به حد التعجب بفلاسفة المسلمين أن انشأ سنة ١٢٢٤ مجمعا في نابولي لنقل العلوم العربية والفلسفة العربية إلى اللاتينية والعبرية ليطلع عليها جمهور المثقفين في أوربا وبأمره أيضاً سافر ميخائيل سكوت إلى طليطلة وترجم شروح ابن رشد على أرسطو.
(وما كاد ينتهي القرن الثالث عشر إلا وجميع كتب هذا الفيلسوف المشهور قد ترجمت إلى اللاتينية، وقبل ذلك بقليل: كانت قد نقلت إلى اللاتينية جمهرة من كتب ابن سينا لتدرس في