السرعة إحدى خصائص العصر، وهي على رغم أخذها الناس بالسوط تستحثهم على المضي، تتهيب الأديب، لا تجرؤ على الدنو منه ساعة سبحه في الفراغ الطويل، أو تأمله بدائع الكون العظيم، أو انجذابه بسحر الطبيعة ومفاتنها
للأديب الذي يركب القطار من القاهرة إلى الإسكندرية، أو منها إلى الصعيد بعض العذر في رمي الريف بالصورة الواحدة ذات الوجه واللون الواحد، وله أن يدعي الملال من الرؤى الرتيبة، لا لأن طبيعة الريف هي كذلك، بل لأن أثر السرعة في نفسه أبلغ من أثر تهيئها لتقبل الجمال ولمح قسمات الروعة والبهاء المطوية والمنشورة، البادية والخافية والتشبع منها على مهل
والريف كالمرأة في مجموع تكوينها سحر يدرك بالغريزة، وفي تفصيل قسماتها فتنة تعيها لطافة الحس بالاشتراك مع الشعور والذوق وتفتق البصيرة
الريف للأديب المتسرع جمال موقوت وبهجة زائلة، ولقرينه المتأمل هيكل في مباءة الأرواح. . .
ما سمعت من أديب ثناء على ريفنا الصامت، بل رأيت ملامح الضجر تضج من الصمت فقلت هو ذا مظهر من مظاهر السطحية لا يقوى صاحبها إلا على مسايرة العصر في سرعته وتسرعه، ويعجز عن مجاراة الروح في سبحه وتأمله وانجذابه
لم ترني (الدقهلية) نخيلاً تبدى لي في الصعيد بقامته الممشوقة، وأغصانه المعروشة، وعناقيده المدلاة، وبلحه النحاسي القاتم والذهبي الصافي اللون، بل أرتني منابت الأرز تلبس عشرات ألوان متناسقة متساوقة من خضرة السندسي المفرح، تسبح في أمواه رقراقة لا تفيض حتى يدرك النبت النضج فيتناوله المنجل، وكأني سمعتها تقول:(نعوم في أمواهنا نستكمل حياتنا فيها كما يستكملها الأديب الموهوب في حب متقطع متواصل يحيا به حياة دائمة التوقد والالتهاب حتى قطعه المنجل!)
رأيت فصول العام مستوفاة في أرض الريف في ساعة واحدة هنا وهناك ربيع وخريف