امتقع وجه الشمس، وخبَت أشعتها، وعلاها اصفرار، وأصابتها رعشة، وغشي الأفق حمرة الوجد في ساعة الغروب، ثم وجمت الطبيعة، واطمأن الجدول في سيره، ورق النسيم واستولى على الكائنات شعور منقبض حزين. . .
ثم حالت نضرة الحقول في الأصيل؛ ونظر الناس إلى الشمس الغاربة فآثروا الرواح، وتململت الماشية، وقلق الصغار، فسارع القرويون إلى جمع شتات أدواتهم من فؤوس وسلاّت، وامتطوا دوابهم فصارت تعدو بهم يدفعها الحنين والشوق إلى الدار بعد نصب النهار؛ وسرعان ما ازدحمت بالعائدين الطرق والمسالك الموصلة إلى القرية. وكلهم مفتون بروعة المساء، الإنسان والحيوان في ذلك سواء. . .
وأمام الدور في القرية تجمهرت النساء والأطفال، وسرت الحياة في الأرجاء، وتطاولت الأعناق لإجتلاء طلعة القادمين كما لو أن أمد الشوق والفراق قد طال. . .
والطير لمحت بدورها احتضار الشمس من بين الأغصان، فتبادلت النظرات، وتجاوبت بالأغاريد كأنها تذكرت أمراً ذا بال، وسرعان ما جمعت جموعها وغادرت أسرّة الأغصان، وحلقت في الفضاء أسراباً تندفع اندفاعاً نحو العش بقوة الحنين وعزم الجناح. . والحق ليس هناك أروع من منظر الطير، يدفعها الحنان نحو العش فلا تعود تأبه بتدليل الغصن ولا بجمال الزهر ولا بوفرة الحَب، ولا بالمرح والتغريد. . .
ولكن طائراً جميلاً يمتاز بقوة تغريده وشدة جرأته، وتدفق مرحه وحيويته، أغرته أكوام القمح الذهبية فترك أفنان الشجر وكاد يقع في شراك الفلاح لولا أن أنقذته سرعة قفزه، فنجا بأعجوبة بعد أن أصابه خدش في الجناح. ولم يدر الطائر لشدة فرحه بالنجاة حقيقة ما أصابه إلاّ عندما حان ميعاد الرحيل للعش، وناداه الرفاق فرفرف بجناحيه وفاضت نفسه بنشوة الحنين، ودفع جناحيه محاولاً أن يأخذ مكانه في مقدمة السرب، ويكون كعادته أول من تضمه أحضان الوكر. . . وصاح صيحة الطرب، واندفع إلى الأمام كالسهم، ولكن لم يلبث أن أخذ منه الجهد، إذ اتسعت شقة الجرح. فترنح في سيره، وأخذ يدور حول نفسه ثم