للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[التنجيم والحرب]

للأستاذ عباس محمود العقاد

نتكلم بلغة الاقتصاد فنقول: إن التنجيم بضاعة يكثر طلبها في أيام الحروب فيكثر عرضها

لأن الناس يتوقون إلى العلم بالمصير، فيظهر لهم من ينبئهم صادقاً أو كاذباً بما يراه من مصير

ولأن الناس جميعاً يخشون شيئاً ويرجون شيئاً في أيام الحروب، فيحبون من يجلب إليهم الطمأنينة بما يزيل من خشية أو يعزز من رجاء، ويتسع من ثمة مجال التنجيم والاستطلاع

ولأن الناس، ولاسيما الجند، يحتاجون إلى الثقة بالغلب، أو ما يسمونه في الاصطلاح الحديث بتقوية الروح المعنوية، فيأنسون إلى ما يوافقهم من كلام المنجمين

ولأن الحوادث الجسام توحي إلى كل نفس أن الأمر فوق طاقة الإنسان، وأن أعنة الأقدار في يد غير يده وعلم غير علمه، فيتجه الذهن إلى عالم الغيب وإلى الذين يدعون له العلم به والإنباء عنه

ولأن النزاع بين طرفين من شأنه في كل حين أن يشحذ غريزة الرهان والسباق حتى في الألعاب التي ليس لها عند الناس خطر الحروب، ومتى شحذت غريزة الرهان فقد شحذت معها غريزة التطلع إلى نجاح هذا وفشل ذاك، أو شحذت معها غريزة الاستطلاع والتخمين، ومنها التنجيم

هذه بعض الأسباب التي تروج صناعة التنجيم في أيام الحرب كالحرب الحاضرة، ولا ندري أهو سوء حظ أم حسن حظ ذلك الذي أغرى الصحف الكبرى في حواضر العالم بأن تتحرى كل ما يروج وتهيئ للقراء كل ما يتوقون إليه من أنباء اليوم والغد، وما يحصل الآن وما سيحصل بعد حين

ولكن الصحف على أية حال تصنع ذلك ولا تبالي أكان حسناً أم كان سيئاً ما تصنع. ففي كثير من صحف أوربا الكبرى أبواب يكتبها مخبرون (مستقبليون) غير الأبواب التي يكتبها مخبرو الوقائع الحاضرة والأنباء الجارية؛ وهؤلاء المخبرون (المستقبليون) هم أناس يحترفون بالتنجيم ويتخذونه جداً يدافعون عنه كما يدافع العالم عن علمه والتاجر عن تجارته، وينكرون أنه لعب مصادفات أو أنه تزجية فراغ أشد إنكار

<<  <  ج:
ص:  >  >>