للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[ديمقراطية الطبيعة]

للأستاذ أحمد أمين

يعجبني البحر في جماله وبهائه، وجلاله ولا نهايته، ويعجبني كذلك في ديمقراطيته، فهو لا يسمح لأحد أن ينغمس في مائه إلا إذا تجرد من كل المظاهر الكاذبة التي خلقتها المدنية، يجب أن يتجرد أولا من ملابسه التي تميز بين الغني والفقير، ومن ريائه ونفاقه ومظاهره التي اصطنعها ليجعل من الناس طبقات يتحكم بعضها في بعض. ففي البحر تتساوى الرءوس، لا غني ولا فقير، ولا ذو جاه ولا عديم الجاه، ولا عالم ولا جاهل , ولا حاكم ولا محكوم، لا يتميزون بشيء فلا بلباس البحر، وفي الحقيقة ليس هو لباس البحر، وإنما هو لباس البر، فليس للبحر لباس إلا ماؤه. ودليل انه لباس البر أن الناس حاولوا به أن يتميز بعضهم من بعض، واتخذوا منه شعارا للغنى والأناقة واللباقة والوجاهة، والبحر لا يعرف شيئا من ذلك، إنما يعرف ذلك البر، ومن اجل هذا سرعان منا ينغمس الناس في البحر، فيسدل بمائه الأزرق الجميل ستارا على كل أثواب الرياء حتى لا ترى بعد إلا رءوسا عارية لا يميز بينها شيء من الصنعة، ثم هو يرسل أمواجه تداعب الناس على المواء، فتغازل الأسود كما تغازل الابيض، وتصفع الجميل كما تصفع القبيح، وتعبث بلحية العالم، كما تلعب براس الجاهل، وأحيانا يهيج هائجه، وتثور حفيظته، فيزفر من الغضب، حتى ليكاد يخرج من لهابه، ويطفر من ثيابه، ويربد وجهه فيلفظ بالزبد، وينتفخ ويرتعد، ويرقص من غير طرب؛ وهو في هذه الحال لا ينسى ديمقراطيته، يأتي للباخرة الضخمة قد أخذت زخرفها وإزَّينت وظن أهلها انهم قادرون عليه فيبتلعها في لحظة، لا تغني عنه محصنات العلم القديم ولا الحديث، كما يبتلع أحيانابيا وديعا وشيخا ضعيفا، ليبرهن انه لا يعبا بقوة ولا ضعف، ولا يخشى باس كمي، ولا يرحم ضعف اعزل، سواء هو في هزله وجده، وسواء هو في حلمه وغضبه ـ ما اجمل البحر، وما اجله، وما ألطفه، وما أقساه!

على أنه يظهر لي أن الطبيعة في جملتها ديمقراطية لا أرستقراطية، ولا أرستقراطية إلا في الإنسان الكاذب، فالشمس ترسل أشعتها الذهبية، والقمر أشعته الفضية، على الماس سواء: على المؤمن والكافر، والأسود والابيض، والغني والفقير، والقصر الكبير.

ويأتي الجو بريح سموم فتلفح وجوه الناس على السواء، لا تميز عظيما ولا حقيرا، ولا

<<  <  ج:
ص:  >  >>