من المشاهد أن أكثر الخصائص لشمائل أمةٍ وعاداتها وأخلاقها، إنما يرجع إلى الخصائص الطبيعية لإقليم هذه الأمة. فخصائص الإقليم المصري تؤثر ولا شك في أحوال المصريين الأخلاقية والاجتماعية، وهي لذلك تقتضينا كلمة إيضاحية نجمل فيها الآثار العامة؛ أما الآثار الخاصة، فستتجلى في الفصول الآتية من هذا الكتاب
يجري النيل في وادي مصر العليا الشديد الضيق الكثير الريح بين صحراوين جبليتين رمليتين، حتى يجتاز سهول مصر السفلى؛ وهو في مجراه تكتنفه في كل مكان، ما خلا مواضع قليلة منه، حقول زراعية تكونت من غرينه؛ وهذه المناطق الزراعية ليست مستوية كل الاستواء لانخفاضها عند الصحراء وارتفاعها قليلاً عند النهر؛ يتخللها غابات من النخل وسلاسل من القرى، وتقطعها ترع عديدة
تصل أمطار الصيف الغزيرة التي تقع في الحبشة وما جاورها من البلاد أرض مصر حول الانتقال الصيفي؛ وعند الاعتدال الخريفي يبلغ النهر أقصى فيضانه، فيُترع النهيرات والقنوات التي تروي الحقول، ويغمر بقاعاً واسعة من الأرض الصالحة للزراعة، ثم يهبط تدريجياً حتى يعود سيرته الأولى. ويحمل النيل معه، وعلى الأخص في وقت الفيضان الغِرْين (الطمى) الذي يجرفه من البلاد الجبلية حيث ينبع، فيوزع في كل سنة هذا الغرين الوفر على الحقول المنبسطة على جانبيه، بالفيضانالطبيعي أو بالري الصناعي؛ بينما يرتفع مجراه من تراكم هذا الغِرْين بدرجة مساوية لارتفاع الحقول. ويعتمد المصريون جميعاً على نهرهم في خصب الأرض، لأن المطر ظاهرة نادرة جداً في بلادهم، ما عدا البلاد الواقعة على سواحل البحر المتوسط. ولما كانت الفصول منتظمة كل الانتظام، فان