كان خالد أفندي يتردد على مقهى (الحرية) في مدينة المنصورة أصيل كل يوم. ومع أن المقهى يشرف على النيل، ويقع في أجمل بقعة في هذا البلد؛ فإنه لم يحاول مطلقاً أن يملأ عينيه مما حوله من جمال وسحر. . . فهو لم يشاهد منظر غروب الشمس في النيل، ولا طلوع القمر من وراء السحاب، ولا الزوارق الشراعية وهي تسبح في ظل الغسق. . . كما أنه لم يعبر جسر طلخا قط، ويرى من وراء الجسر من مناظر خلابة في مدى السنين التسع التي قضاها في المنصورة منذ أن نقل إليها كاتباً في تفتيش الري!
وكان يجلس على ناصية الطريق زمن الصيف، فإذا جاء الشتاء انتقل مع الجالسين إلى الجزء الشتوي من المقهى على الرصيف الآخر من الطريق، وألقى بنفسه في مكان ضيق يعج بالخلق ويزهق الأنفاس. هذه المقاهي الغريبة المنتشرة في طول البلاد وعرضها تضم خلقاً عجيباً من صعاليك الأرض، ومحترفي النرد، وأصحاب العقول الذهبية الذين يدخلون أنوفهم في كل شيء على ظهر البسيطة، وينتقدون أنظمة الاجتماع الإنساني قاطبة! ويشعرون بأنهم ضحية نظم فاسدة لا سبيل إلى إصلاحها! فما يعوزهم هو شيء خارج عن نطاق البشرية وحدودها! على أن خالد أفندي كان يختلف عن هؤلاء جميعا، فهو رجل قد جاوز بسنه عمر الشباب، وحاد بتفكيره عن تفكير المخبولين!. . . بيد أنه كان يتفق معهم في الحيرة والقلق، والشعور المطلق بالنقص أبدا، ولهذا ظلت حياته تسير على منوال واحد ممل معذب. . . وكان قد أدرك الجيل الذي يتزوج فيه الشبان قبل الأوان، فتزوج معهم وأنجب، وكان زواجه من فتاة طيبة من أسرة كريمة، والأسر الكريمة كثيرة الود، فالزوجة عند عماتها وخالاتها، وخالات عماتها وعمات خالاتها! كما أنهم محط الرحل في المدينة لكل من يشرف المدينة من الأهل والصحب. ولهذا فر خالد أفندي من المنزل إلى المقهى، وقعد على حافة الطريق يرقب الرائحات والغاديات بعين عطشى. . .
ولما امتد لهب الحرب، وكثر عدد المهاجرين إلى الشرق، اكتظت المنصورة بالخلق، وازدحم منزل خالد أفندي بأفراد أسرته من المدن المعرضة لشر الغارات. فلما مضت الأيام