ذلك ما ابتدرني به رجل يهدف للخمسين أشمط الرأس أصهب الشارب جركسي البشرة، يترجم كلامه عن العزة، وينم هندامه على الفاقة، ويشير سَمْتُه إلى مسحة من الأرستقراطية تتراءى ضئيلة على معارف وجهه وحركات يده
دخل عليَّ المكتب أول أمس في أدب كأدب البيوتات الكريمة الدارسة: سلام تحس فيه تواضع المملوك وكبرياء الملك؛ وبسمة متملقة تجري على شفتيه الرقيقتين كأنها من طبَعيَّتها خِلْقة؛ وأسلوب هذبته (الإتيكيت) فهو مختار اللفظ موزون الإشارة؛ ثم شكر لي المقال الذي افتتحت به عدد الرسالة الماضي وقال:
إذا كان طلاب الأوقاف الخيرية يتمنون أن تكون للوزارة عين، فإن طلاب الأوقاف الأهلية يتمنون أن يكون لها قلب. أولئك يشكون أنهم يبأسون من وراء عينيها فلا ترى، وهؤلاء يشكون أنهم يشقون بين يديها ولا ترحم! وما دام المستحقون لا ينالون نصيبهم من الحق، فكيف تزجو أن ينال المعتَفون نصيبهم من الخير؟
كان الرجل يتكلم كلام الشاكي الكظيم يهمه أن يقول ولا يهمه أن يسمع. فتركته يستريح إليّ بما في نفسه، لا أعترض عليه ولا أصح له، فإن عليَّ أن ابلغ أولي مسامع الأمر زفرات الصدور المكروبة، وعليهم هم أن ينظروا إن كان مبعثها خطأ النفس على النفس، أو خطأ الناس على الناس.
قال محدثي وهو يضع سيجارته الملفوفة باليد في مبسم طويل من الآبُنُوس:
- إذا عذرنا وزارة الأوقاف على أنها لا تسعف أولئك المنكوبين الذين انفرد بهم البؤس في ظلام الدور، ومنعتهم الأنفة عن الخروج إلى النور، فكيف نعذرها على أنها تدُخل البوس بيدها على قوم جعلهم أهلوهم في ذمتها وأمانها، تحفظ لهم الملك وتثمرِّه، وتبسط عليهم الرزق وتوفره؟ أنا ضحية من ضحايا الأوقاف الأهلية، اعتمدتُ منها على جُرُف منهار فهويت إلى قرارة الفاقة. لم أتهيأ للعمل الحكومي بشهادة، ولا للعمل الحر بصنعة؛ وإنما نشأت في بيت جدي فلان باشا نشأة المترفين المدللين، أجيد ركوب الخيل، وأحذق أنواع الصيد، وأساهم في تجميل حياة القاهرة بالسرف في الملاهي، والقصف في البيوت،