(فإن مت فأعلن إلى كل مصري أني شاب متزوج ولي ثلاثة أطفال ولي أمي وأخواتي. . . ومع هذا فقد ضحيت بنفسي ليعيشوا أحرارا في بلدهم؛ فالحرية لا تمنح ولكنها تؤخذ بأعز التضحيات وإلى اللقاء إن مت أو عدت!)
هذه كلمات تلقتها مصر يوما عن بطلها الشهيد، وكنت واحدا من الذين عاشوا في ظلالها السخية، وشعروا شعورا عميقا بأنها لم تكن خاتمة رسالة وإنما كانت بداية تاريخ. . أقسم لقد بدأت مصر تاريخها الحقيقي في تلك اللحظة التي سجل فيها أحمد عصمت كلماته الخالدة، وخر بعدها صريعا ليكتبها مرة أخرى بدمه!
إن طلاب الحرية لا يغمسون ريشتهم إلى في دماء القلب، لأنهم لا يكتبون عادة إلا بالمداد الأحمر. . ولقد آثر أحمد عصمت أن يكتب بهذا المداد! آثر أن يكتب به لأنه لم يكن يسطر رسالة لأخيه وإنما كان يسطر رسالة لأمته. . وهكذا نكتب وثائق التحرير ونسطر رسائل الكفاح!
كلمات قليلة ولكنها كثيرة، كثيرة جدا في حساب الشعور. . وكلمات بسيطة ولكنها عميقة؛ عميقة جدا في حساب الفن! إن البلغاء من أمثال أحمد عصمت لا يميلون أبدا إلى الثرثرة. . سطر واحد أو سطران أو ثلاثة، تؤلف في مجموعها كتابا ضخما يهدى إلى جيل من بعده أجيال؛ أجيال ستقف حتما عند كل صفحة من صفحاته لتستنشق عطر الكرمة وتستروح أنسام الإباء!
لم يكن أحمد عصمت بحكم عمله أديبا ولا فنانا، ولكنه كان ضابطا (طيارا) بشركة مصر للطيران. . ومع ذلك فقد أحال الحياة إلى فن، وأحال الموت إلى فن، وقدم لعشاق الفنون أروع الأمثال! لقد كان (محلقا) في حياته، وكان (محلقا) في مماته، وكان (محلقا) في كلماته. . والفن في كل صورة من صوره ما هو إلا (تحليق) في شتى الآفاق والأجواء.
لقد خرج البطل من بيته ذات صباح؛ خرج ونصب عينيه هدف، وملء قلبه أمل، وفي قرارة نفسه عزم وإصرار. . لم ينس إن هناك أما هو بالنسبة إليها الملاذ الوحيد بعد الله، وأن هناك زوجة ألقت بآمال العمر كلها بين يديه، وأن هناك أطفالا لا يعرفون عن الحياة