إلا أنها هنا بين أحضانه، هناك هؤلاء حقا ولكنهم يعيشون غير أحرار. . أنه يريد أن يقدم للأم ما هو أبقى من الابن، وإلى الزوجة ما هو أغلى من الزوج، وإلى الأبناء ما هو أخلد من الآباء. أنه يريد أن يقدم إليهم الحرية، وهذا هو المعنى الكبير الذي دارت حوله السطور الأخيرة في رسالته؛ تلك الرسالة التي سجلت نقطة البدء في تاريخ أمة!
إن التاريخ سيروي يوما هذه القصة؛ سيقول للناس إن أحمد عصمت كان عائدا بسيارته بعد أن أدى رسالته؛ بعد أن ذهب إلى المجاهدين على ضفاف القتال ليدفع إلى أيديهم بسلاح وذخيرة، وعند نقطة التفتيش في قرية (أبو حماد) اعترض طريقه عدد من الجنود الإنجليز ليفتشوه! وتلفت البطل ليرى من حوله جمعا من المصريين قد رفعوا الأيدي فوق الرءوس، في موقف يوحي بالضيم ويشعر بالهوان. . وثارت عزة البطل واحتج إباؤه، وقدم إلى الضابط الإنجليزي وجنوده ما يكشف لهم عن حقيقة شخصيته، شخصية الضابط المصري الذي يستنكر التهجم على كرامة المصريين! وانطلقت من فم الإنجليزي السفيه بضع عبارات وقحة، خلاصتها أن المصريين أناس لا كرامة لهم: وفي ومضة البرق كان مسدس أحمد عصمت يلقى على صدر الضابط الإنجليزي أبلغ الدروس ويسكت منه اللسان القذر، ويخمد الصوت الأثيم! وانهال الرصاص الغادر من كل صوب على البطل المصري الباسل، ولكنه قبل أن يودع الحياة؛ كان قد أكد لخصومه أن كرامة مصر فوق الحياة!!
أحمد عصمت ومن قبله هؤلاء الأبطال: عادل غانم، وعباس الأعسر، وأحمد المنيسي، وعمر شاهين؛ طلاب الجامعة الذين عاشوا أطياف نجد وأرواح فداء. . لقد كان مقامهم في الدنيا أشبه بمقام الورد: عمرهم من عمره، ونظارتهم من نظارته، وإن كان عطر ذكراهم أبقى على الزمن من عطر شذاه! لقد ضحوا راضين بأيام الشباب؛ بما فيها من أمل، بما فيها من مثل، بما فيها من أهل وأحباب. . أعذروهم فقد كانوا عشاق حرية في هواها كم عرفوا معنى الوجد، وكم ذاقوا طعم السهد، وكم جادوا بالدمع فلما أعرضت. . جادوا بالحياة!!
لقد كانوا في الجامعة طلابا ولكنهم كانوا على ضفاف القنال أساتذة. . أساتذة كفاح لم يفتحوا الكتب قبل أن يلقوا دروسهم على الناس، وإنما فتحوا القلوب وحدها ليحيلوا الخفقات فيها إلى محاضرات وما كان أروع فهمهم للكرامة، وما كان أعمق إدراكهم للحرية. . لقد قالوا